9 مصاحف

جواهر القران لأبي حامد الغزالي

 كتاب جواهر القرآن أبو حامد الغزالي

 

السبت، 13 فبراير 2021

( كتاب الزكاة من نيل الأوطار للشوكاني )

 


(  كتاب الزكاة من نيل الأوطار للشوكاني )


 


نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة الإسلامية

كتاب الزكاة
 الزكاة في اللغة النماء يقال زكا الزرع إذا نما وترد أيضًا بمعنى التطهير وترد شرعًا بالاعتبارين معًا أما بالأول فلأن إخراجها سبب للنماء في المال أو بمعنى أن الأجر يكثر بسببها أو بمعنى أن تعلقها بالأموال ذات النماء كالتجارة والزراعة‏.‏ ودليل الأول‏:‏ ‏"‏ما نقص مال من صدقة‏"‏ لأنها يضاعف ثوابها كما جاء‏:‏ ‏"‏إن الله تعالى يربي الصدقة‏"‏ وأما الثاني فلأنها طهرة للنفس من رذيلة البخل وطهرة من الذنوب‏[‏قال الإمام النووي‏:‏ وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها‏.‏ وقيل لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه كما سبق في قوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏والصدقة برهان‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ وسميت صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه‏.‏ اهـ‏.‏ وقوله لوجود المعنى اللغوي فيها هو النماء‏.‏ وقد شاهدنا ذلك حسًا ومعنىً فعلى محبي كثرة الأموال وزيادتها وتضاعفها أضعافًا كثيرة أن يخرجوا زكاة أموالهم ولا يبخلوا بها فإنه مضرة عليهم في الدنيا بتسليط أنواع الهلاك عليها وفي الآخرة بتكثير صنوف العقاب عليهم واللَّه أعلم‏]‏‏.‏ قال في الفتح‏:‏ وهي الركن الثالث من الأركان التي بني الإسلام عليها‏.‏ قال أبو بكر ابن العربي‏:‏ تطلق الزكاة على الصدقة الواجبة والمندوبة والنفقة والعفو والحق‏.‏ وتعريفها في الشرع‏:‏ إعطاء جزء من النصاب إلى فقير ونحوه غير متصف بمانع شرعي يمنع من الصرف إليه‏.‏ ووجوب الزكاة أمر مقطوع به في الشرع يستغني عن تكلف الاحتجاج له وإنما وقع الاختلاف في بعض فروعها فيكفر جاحدها‏.‏ وقد اختلف في الوقت الذي فرضت فيه فالأكثر أنه بعد الهجرة‏.‏ وقال ابن خزيمة‏:‏ إنها فرضت قبل الهجرة‏.‏ واختلف الأولون فقال النووي‏:‏ إن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة‏.‏ وقال ابن الأثير‏:‏ في التاسعة‏.‏ قال في الفتح‏:‏ وفيه نظر لأنها ذكرت في حديث ضمام ابن ثعلبة وفي حديث وفد عبد القيس وفي عدة أحاديث وكذا في مخاطبة أبي سفيان مع هرقل وكانت في أول السابعة وقال فيها يأمرنا بالزكاة‏.‏ وقد أطال الكلام الحافظ على هذا في أوائل كتاب الزكاة من الفتح فليرجع إليه‏.‏
باب الحث عليها والتشديد في منعها
1 - عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال‏:‏ إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب‏"‏‏.‏ رواه الجماعة‏.‏

 

ج / 4 ص -115-       قوله‏:‏ ‏"‏لما بعث معاذًا‏"‏ كان بعثه سنة عشر قبل حج النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كما ذكره البخاري في أواخر المغازي‏.‏ وقيل كان ذلك في سنة تسع عند منصرفه من تبوك رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك وقد أخرجه ابن سعد في الطبقات عنه ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر وقيل بعثه عام الفتح سنة ثمان واتفقوا على أنه لم يزل باليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها واختلف هل كان واليًا أو قاضيًا فجزم ابن عبد البر بالثاني والغساني بالأول‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏تأتي قومًا من أهل الكتاب‏"‏ هذا كالتوطئة للوصية لنستجمع همته عليها لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة فلا يكون في مخاطبتهم كمخاطبته الجهال من عبدة الأوثان‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فادعهم‏"‏ الخ إنما وقعت البداءة بالشهادتين لأنهما أصل الدين الذي لا يصح بشيء غيرهما فمن كان منهم غير موحد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين ومن كان موحد فالمطالبة له بالجمع بينهما‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإن هم أطاعوك‏"‏ الخ استدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث دعوا أولًا إلى الإيمان فقط ثم دعوا إلى العمل ورتب ذلك عليه بالفاء وتعقب بأن مفهوم الشرط مختلف في الاحتجاج به وبأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في الوجوب كما أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب وقد قدمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث ورتبت الأخرى عليها بالفاء‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏خمس صلوات‏"‏ استدل به على أن الوتر ليس بفرض وكذلك تحية المسجد وصلاة العيد وقد تقدم البحث عن ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإن هم أطاعوك لذلك‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد إن هم أطاعوك بالإقرار بوجوبها عليهم والتزامهم بها والثاني أن يكون المراد الطاعة بالفعل وقد رجح الأول بأن المذكور هو الإخبار بالفريضة فتعود الإشارة إليها ويرجح الثاني أنهم لو أخبروا بالفريضة فبادروا إلى الامتثال بالفعل لكفى ولم يشترط التلفظ بخلاف الشهادتين فالشرط عدم الإنكار والإذعان للوجوب‏.‏ وقال الحافظ‏:‏ المراد القدر المشترك بين الأمرين فمن امتثل بالإقرار أو بالفعل كفاه أو بهما فأولى وقد وقع في رواية الفضل بن العلاء بعد ذكر الصلاة فإذا صلوا وبعد ذكر الزكاة فإذا أقروا بذلك فخذ منهم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏صدقة‏"‏ زاد البخاري في رواية في أموالهم وفي رواية له أخرى افترض عليهم زكاة في أموالهم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏تؤخذ من أغنيائهم‏"‏ استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه وإما بنائبه فمن امتنع منهم أخذت منه قهرًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏على فقرائهم‏"‏ استدل به لقول مالك وغيره أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد وفيه بحث كما قال ابن دقيق العيد لاحتمال أن يكون ذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء‏.‏ قال الخطابي‏:‏ وقد يستدل به من لا يرى على المديون زكاة إذا لم يفضل من الدين الذي عليه قدر نصاب لأنه ليس بغني إذ إخراج ماله مستحق لغرمائه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإياك وكرائم أموالهم‏"‏ كرائم منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره والكرائم جمع كريمة أي نفيسة‏.‏ ‏"‏وفيه دليل‏"‏ على أنه لا يجوز للمصدق أخذ خيار المال لأن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بالمالك إلا برضاه‏.‏

 

ج / 4 ص -116-       قوله‏:‏ ‏"‏واتق دعوة المظلوم‏"‏ فيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ كرائم الأموال الإشارة إلى أن أخذها ظلم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏حجاب‏"‏ أي ليس لها صارف يصرفها ولا مانع والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصيًا كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعًا‏:‏ ‏"‏دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا ففجره على نفسه‏"‏ قال الحافظ‏:‏ وإسناده حسن‏.‏ وليس المراد إن للَّه تعالى حجابًا يحجبه عن الناس‏.‏ قال المصنف رحمه اللَّه بعد أن ساق الحديث‏:‏ وقد احتج به على وجوب صرف الزكاة في بلدها واشتراط إسلام الفقير وأنها تجب في مال الطفل الغني عملا بعمومه كما تصرف فيه مع الفقر انتهى‏.‏ وفيه أيضًا دليل على بعث السعاة وتوصية الإمام عامله فيما يحتاج إليه من الأحكام وقبول خبر الواحد ووجوب العمل به وإيجاب الزكاة في مال المجنون للعموم أيضًا وأن من ملك نصابًا لا يعطى من الزكاة من حيث أنه جعل أن المأخوذ منه غني وقابله بالفقير وأن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة لإضافة الصدقة إلى المال‏.‏ وقد استشكل عدم ذكر الصوم والحج في الحديث مع أن بعث معاذ كان في آخر الأمر كما تقدم وأجاب ابن الصلاح بأن ذلك تقصير من بعض الرواة وتعقب بأنه يفضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث النبوية لاحتمال الزيادة والنقصان وأجاب الكرماني بأن اهتمام الشارع بالصلاة والزكاة أكثر ولهذا كررا في القرآن فمن ثم لم يذكر الصوم والحج في هذا الحديث مع أنهما من أركان الإسلام وقيل إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منه بشيء كحديث‏:‏ ‏"‏بني الإسلام على خمس‏"‏ فإذا كان في الدعاء على الإسلام اكتفي بالأركان الثلاثة الشهادة والصلاة والزكاة ولو كان بعد وجود فرض الحج والصوم لقوله تعالى ‏{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ‏}‏ مع أن نزولها بعد فرض الصوم والحج‏.‏
2 - وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبهته حتى يحكم اللَّه بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت تستن عليه كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم اللَّه بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها حتى يحكم اللَّه بين عباده في يوم كان

 

ج / 4 ص -117-        مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار قالوا‏:‏ فالخيل يا رسول اللَّه قال‏:‏ الخير في نواصيها أو قال الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الخيل ثلاثة هي لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر فأما التي هي له أجر فالرجل يتخذها في سبيل اللَّه ويعدها له فلا تغيب شيئًا في بطونها إلا كتب اللَّه له أجرًا ولو رعاها في مرج فما أكلت من شيء إلا كتب اللَّه له أجرًا ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر حتى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها ولو استنت شرفًا أو شرفين كتب له بكل خطوة تخطوها أجر وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملًا ولا ينسى حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها وأما التي هي عليه وزر فالذي يتخذها أشرًا وبطرًا أو بذخًا ورياء الناس فذلك الذي هي عليه وزر قالوا‏:‏ فالخمر يا رسول اللَّه قال‏:‏ ما أنزل اللَّه عليَّ فيها شيئًا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة ‏{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}‏‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ما من صاحب كنز‏"‏ قال الإمام أبو جعفر الطبري‏:‏ الكنز كل شيء مجموع بعضه على بعض سواء كان في بطن الأرض أو في ظهرها قال صاحب العين وغيره‏:‏ وكان مخزونًا‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ اختلف السلف في المراد بالكنز المذكور في القرآن وفي الحديث فقال أكثرهم‏:‏ هو كل مال وجب فيه صدقة الزكاة فلم تؤد فأما مال أخرجت زكاته فليس بكنز وقيل الكنز هو المذكور عن أهل اللغة ولكن الآية منسوخة بوجوب الزكاة وقيل المراد بالآية أهل الكتاب المذكورون قبل ذلك وقيل كل ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز وان أديت زكاته وقيل هو ما فضل عن الحاجة ولعل هذا كان في أول الإسلام وضيق الحال واتفق أئمة الفتوى على القول الأول لقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏لا تؤدى زكاته‏"‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏"‏من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له شجاعًا أقرع‏"‏ وفي آخره‏:‏ ‏"‏فيقول أنا كنزك‏"‏ وفي لفظ لمسلم يدل قوله ‏"‏ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته‏"‏ ‏"‏ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منهما حقهما‏"‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ثم يرى سبيله‏"‏ قال النووي‏:‏ هو بضم الياء التحتية من يرى وفتحها وبرفع لام سبيله ونصبها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا بطح لها بقاع قرقر‏"‏ القاع المستوي الواسع في سوى من الأرض قال الهروي‏:‏ وجمعه قيعة وقيعان مثل جار وجيرة وجيران‏.‏ والقرقر بقافين مفتوحتين وراءين أولهما ساكنة المستوي أيضًا من الأرض الواسع‏.‏ والبطح قال جماعة من أهل اللغة‏:‏ معناه الإلقاء على الوجه قال القاضي عياض‏:‏ وقد جاء في رواية للبخاري تخبط

 

ج / 4 ص -118-       وجهه بأخفافها قال‏:‏ وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البطح أن يكون على الوجه وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمد فقد يكون على وجهه وقد يكون على ظهره ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كأوفر ما كانت‏"‏ يعني لا يفقد منها شيء‏.‏ وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏"‏أعظم ما كانت‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏تستن عليه‏"‏ أي تجري عليها وهو بفتح الفوقية وسكون السين المهملة بعدها فوقية مفتوحة ثم نون مشددة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كلما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها‏"‏ وقع في رواية لمسلم‏:‏ ‏"‏كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها‏"‏ قال القاضي عياض‏:‏ وهو تغيير وتصحيف وصوابه الرواية الأخرى يعني المذكورة في الكتاب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ليس فيها عقصاء‏"‏ الخ قال أهل اللغة‏:‏ العقصاء ملتوية القرنين وهي بفتح العين المهملة وسكون القاف بعدها صاد مهملة ثم ألف ممدودة‏.‏ والجلحاء بجيم مفتوحة ثم لام ساكنة ثم حاء مهملة التي لا قرن لها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏تنطحه‏"‏ بكسر الطاء وفتحها لغتان حكاهما الجوهري وغيره والكسر أفصح وهو المعروف في الرواية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الخيل في نواصيها الخير‏"‏ جاء تفسيره في الحديث الآخر في الصحيح بأنه الأجر والمغنم وفيه دليل على بقاء الإسلام والجهاد إلى يوم القيامة والمراد قبيل القيامة بيسير وهو وقت إتيان الريح الطيبة من قبل اليمن التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما ثبت في الصحيح‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأما التي هي له أجر‏"‏ هكذا في أكثر نسخ مسلم وفي بعضها‏:‏ ‏"‏فأما الذي هي له أجر‏"‏ وهي أوضح وأظهر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏في مرج‏"‏ بميم مفتوحة وراء ساكنة ثم جيم وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولو استنت شرفًا أو شرفين‏"‏ أي جرت والشرف بفتح الشين المعجمة والراء وهو العالي من الأرض وقيل المراد طلقًا أو طلقين‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أشرًا وبطرًا وبذخًا‏"‏ قال أهل اللغة‏:‏ الأشر بفتح الهمزة والشين المعجمة المرح واللجاج‏.‏ والبطر بفتح الباء بواحدة من أسفل والطاء المهملة ثم راء هو الطغيان عند الحق‏.‏ والبذخ بفتح الباء الموحدة والذال المعجمة بعدها خاء معجمة هو بمعنى الأشر والبطر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا هذه الآية الفاذة الجامعة‏"‏ المراد بالفاذة القليلة النظير وهي بالذال المعجمة المشددة والجامعة العامة المتناولة لكل خير ومعروف ومعنى ذلك أنه لم ينزل عليَّ فيها نص بعينها ولكن نزلت هذه الآية العامة‏.‏ وقد يحتج بهذا من قال لا يجوز الاجتهاد للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ويجاب بأنه لم يظهر له فيها شيء ومحل ذلك الأصول‏.‏ والحديث يدل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة والإبل والغنم‏.‏ وقد زاد مسلم في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏ولا صاحب بقر‏"‏ الخ قال النووي‏:‏ وهو أصح حديث ورد في زكاة البقر وقد استدل به أبو حنيفة على وجوب الزكاة في الخيل لما وقع في رواية لمسلم عند ذكر الخيل‏:‏ ‏"‏ثم لم ينس حق اللَّه في ظهورها ولا رقابها‏"‏ وتأول الجمهور هذا الحديث على أن المراد يجاهد بها‏.‏ وقيل المراد بالحق في رقابها الإحسان إليها والقيام بعلفها وسائر مؤنها والمراد بظهورها إطراق فحلها إذا طلبت عاريته وقيل المراد حق اللَّه مما يكسبه من مال العدو على ظهورها وهو خمس الغنيمة وسيأتي الكلام على هذه الأطراف التي دل الحديث عليها‏.‏
قال المصنف رحمه اللَّه تعالى‏:‏ وفيه دليل أن تارك الزكاة لا يقطع له بالنار وآخره دليل في إثبات العموم انتهى‏.‏

 

ج / 4 ص -119-       سقطت هذه الصفحة

 

ج / 4 ص -120-       والآخر معدوم ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة إليها فكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعًا من الصحابة ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه‏.‏
وقد اجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر بالعموم ومن أبي بكر بالقياس ودل ذلك على أن العموم يخص بالقياس وأن جميع ما تضمنه الخطاب الوارد في الحكم الواحد من شرط واستثناء مراعى فيه ومعتبر صحته فلما استقر عند عمر صحة رأي أبي بكر وبان له صوابه تابعه على قتال القوم وهو معنى قوله فعرفت أنه الحق يشير إلى انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها والبرهان الذي أقامه نصًا ودلالة‏.‏ وقد زعم زاعمون من الرافضة أن أبا بكر أول من سبى المسلمين وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى ‏ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}‏ خطاب خاص في مواجهة النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما كان للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ومثل هذه الشبهة إذا وجدت كان ذلك مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم وزعموا أن قتالهم كان عسفًا وهؤلاء قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في السلف وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافًا منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفارًا ولذلك رأى أبو بكر سبي ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة‏.‏ واستولد علي بن أبي طالب عليه السلام جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمد بن الحنيفة ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد كفارًا وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما مانعوه من حقوق الدين وذلك أن الردة اسم لغوي فكل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتد عنه وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقًا وأما قوله تعالى ‏{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}‏ وما ادعوه من كون الخطاب خاصًا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فإن خطاب كتاب اللَّه على ثلاثة أوجه‏:‏ خطاب عام كقوله تعالى ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ‏}‏ الآية ونحوها‏.‏ وخطاب خاص برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا يشركه فيه غيره وهو ما أبين به عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى ‏{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}‏ وكقوله ‏{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ‏}‏‏.‏ وخطاب مواجهة للنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى ‏{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ‏}‏ وكقوله تعالى ‏{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ‏}‏ ونحو ذلك‏.‏ ومنه قوله تعالى ‏{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ‏}‏ وهذا غير مختص به بل يشاركه فيه الأمة‏.‏ والفائدة في مواجهة النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى اللَّه والمبين عنه معنى ما أراد فقدم اسمه ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه لهم‏.‏ وأما التطهير والتزكية

 

ج / 4 ص -121-       والدعاء منه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لصاحب الصدقة فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة اللَّه وطاعة رسوله فيها وكل ثواب موعود على عمل بر كان في زمنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فإنه باق غير منقطع‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه‏"‏ الخ المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا اللَّه ويقاتلون ولا يرفع عنهم السيف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة‏"‏ قال النووي‏:‏ ضبطناه بوجهين فرق وفرق بتشديد الراء وتخفيفها ومعناه من أطاع في الصلاة وجحد في الزكاة أو منعها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عناقًا‏"‏ بفتح العين بعدها نون وهو الأنثى من أولاد المعز‏.‏ وفي الرواية الأخرى‏:‏ ‏"‏عقالا‏"‏ وقد اختلف في تفسيره فذهب جماعة إلى أن المراد بالعقال زكاة عام‏.‏ قال النووي‏:‏ وهو معروف في اللغة كذلك وهذا قول الكسائي والنضر بن شميل وأبي عبيد والمبرد وغيرهم من أهل اللغة وهو قول جماعة من الفقهاء قال‏:‏ والعقال الذي هو الحبل الذي يعقل به البعير لا يجب دفعه في الزكاة فلا يجوز القتال عليه فلا يصح حمل الحديث على هذا‏.‏ وذهب كثير من المحققين إلى أن المراد بالعقال الحبل الذي يعقل به البعير وهذا القول محكي عن مالك وابن أبي ذئب وغيرهما وهو اختيار صاحب التحرير وجماعة من حذاق المتأخرين‏.‏ قال صاحب التحرير‏:‏ قول من قال المراد صدقة عام تعسف وذهاب عن طريقة العرب لأن الكلام خرج مخرج التضييق والتشديد والمبالغة فيقتضي قلة ما علق به العقال وحقارته وإذا حمل على صدقة العام لم يحصل هذا المعنى قال النووي‏:‏ وهذا الذي اختاره هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره وكذلك أقول أنا ثم اختلفوا في المراد بقوله منعوني عقالا فقيل قدر قيمته كما في زكاة الذهب والفضة والمعشرات والمعدن والركاز والفطرة والمواشي في بعض أحوالها وهو حيث يجوز دفع القيمة‏.‏ وقيل زكاة عقال إذا كان من عروض التجارة وقيل المراد المبالغة ولا يمكن تصويره ويرده ما تقدم‏.‏ وقيل إنه العقال الذي يؤخذ مع الفريضة لأن على صاحبها تسليمها يرباطها‏.‏
واعلم أنها قد وردت أحاديث صحيحة قاضية بأن مانع الزكاة يقاتل حتى يعطيها ولعلها لم تبلغ الصديق ولا الفاروق ولو بلغتهما لما خالف عمر ولا احتج أبو بكر بتلك الحجة التي هي القياس فمنها ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن عمر قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللَّه‏"‏ وأخرج البخاري ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللَّه‏"‏ وأخرج مسلم والنسائي من حديث جابر بن عبد اللَّه نحوه‏.‏ ـ وفي الباب ـ أحاديث‏.‏
4 - وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال‏:‏ ‏"‏سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها

 

ج / 4 ص -122-       وشطر ابله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى لا يحل لآل محمد منها شيئًا‏"‏‏.‏
رواه أحمد والنسائي وأبو داود وقال‏:‏ ‏"‏وشطر ماله‏"‏ وهو حجة في أخذها من الممتنع ووقوعها موقعها‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا الحاكم والبيهقي وقال يحيى بن معين‏:‏ إسناده صحيح إذا كان من دون بهز ثقة وقد اختلف في بهز فقال أبو حاتم‏:‏ لا يحتج به وروى الحاكم عن الشافعي أنه قال‏:‏ ليس بهز حجة وهذا الحديث لا يثبته أهل العلم بالحديث ولو ثبت لقلنا به وكان قال به في القديم ثم رجع‏.‏ وسئل أحمد عن هذا الحديث فقال‏:‏ ما أدري وجهه وسئل عن إسناده فقال‏:‏ صالح الإسناد‏.‏ وقال ابن حبان‏:‏ لولا هذا الحديث لأدخلت بهزًا في الثقات‏.‏ وقال ابن حزم‏:‏ إنه غير مشهور العدالة‏.‏ وقال ابن الطلاع‏:‏ إنه مجهول وتعقبا بأنه قد وثقه جماعة من الأئمة‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ لم أر له حديثًا منكرًا‏.‏ وقال الذهبي‏:‏ ما تركه عالم قط وقد تكلم فيه أنه كان يلعب بالشطرنج‏.‏ قال ابن القطان‏:‏ وليس ذلك بضائر له فإن استباحته مسألة فقهية مشتهرة‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وقد استوفيت الكلام فيه في تلخيص التهذيب‏.‏ وقال البخاري‏:‏ بهز بن حكيم يختلفون فيه وقال ابن كثير‏:‏ الأكثر لا يحتجون به‏.‏ وقال الحاكم‏:‏ حديثه صحيح وقد حسن له الترمذي عدة أحاديث ووثقه واحتج به أحمد وإسحاق والبخاري خارج الصحيح وعلق له فيه وروى عن أبي داود أنه حجة عنده‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏في كل إبل سائمة‏"‏ يدل على أنه لا زكاة في المعلوفة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏في كل أربعين‏"‏ الخ سيأتي تفصيل الكلام في ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا تفرق إبل عن حسابها‏"‏ أي لا يفرق أحد الخليطين ملكه عن ملك صاحبه وسيأتي أيضًا تحقيقه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏مؤتجرًا‏"‏ أي طالبًا للأجر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإنا آخذوها‏"‏ استدل به على أنه يجوز للإمام أن يأخذ الزكاة قهرًا إذ لم يرض رب المال وعلى أنه يكتفي بنية الإمام كما ذهب إلى ذلك الشافعي والهادوية وعلى أن ولاية قبض الزكاة إلى الإمام وإلى ذلك ذهبت العترة وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي في أحد قوليه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وشطر ماله‏"‏ أي بعضه‏.‏ وقد استدل به على أنه يجوز للإمام أن يعاقب بأخذ المال وإلى ذلك ذهب الشافعي في القديم من قوليه ثم رجع عنه وقال‏:‏ إنه منسوخ وهكذا قال البيهقي وأكثر الشافعية‏.‏ قال في التلخيص‏:‏ وتعقبه النووي فقال‏:‏ الذي ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف ودعوى النسخ غير مقبولة مع الجهل بالتاريخ وقد نقل الطحاوي والغزالي الإجماع على نسخ العقوبة بالمال‏.‏ وحكى صاحب ضوء النهار عن النووي أنه نقل الإجماع مثلهما وهو يخالف ما قدمنا عنه فينظر‏.‏ وزعم الشافعي أن الناسخ حديث ناقة البراء لأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حكم عليه بضمان ما أفسدت ولم ينقل أنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم في تلك القضية أضعف الغرامة ولا يخفى أن تركه صلى اللَّه عليه وآله وسلم للمعاقبة بأخذ المال في هذه القضية لا يستلزم الترك مطلقًا ولا يصلح للتمسك به على عدم الجواز وجعله ناسخًا البتة وقد ذهب إلى جواز المعاقبة بالمال الإمام يحيى والهادوية‏.‏ وقال في الغيث‏:‏ لا أعلم في جواز ذلك خلافًا بين أهل البيت واستدلوا بحديث بهز هذا وبهمِّ النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة وقد تقدم في الجماعة‏.‏ وبحديث

 

ج / 4 ص -123-       عمر عند أبي داود قال‏:‏ ‏"‏قال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه‏"‏ وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة المديني قال البخاري‏:‏ عامة أصحابنا يحتجون به وهو باطل‏.‏
وقال الدارقطني‏:‏ أنكروه على صالح ولا أصل له والمحفوظ أن سالمًا أمر بذلك في رجل غل في غزاة مع الوليد بن هشام‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وهذا أصح‏.‏ وبحديث ابن عمرو ابن العاص عند أبي داود والحاكم والبيهقي‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال وضربوه‏"‏ وفي إسناده زهير بن محمد قيل هو الخراساني وقيل غيره وهو مجهول وسيأتي الكلام على هذا الحديث في كتاب الجهاد وله شاهد مذكور هنالك‏.‏ وبحديث أن سعد بن أبي وقاص سلب عبدًا وجده يصيد في حرم المدينة قال‏:‏ ‏"‏سمعت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ من وجدتموه يصيد فيه فخذوا سلبه‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏ وبحديث تغريم كاتم الضالة أن يردها ومثلها‏.‏ وحديث تضمين من أخرج غير ما يأكل من الثمر المعلق مثليه كما أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري من حديث عبد اللَّه بن عمرو‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال‏:‏ من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة ‏[‏الخبنة بضم الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة ما تحمله في حضنك‏]‏ فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة‏"‏ وأخرج نحوه النسائي والحاكم وصححه وسيأتي في كتاب السرقة‏.‏ ومن الأدلة قضية المددى الذي أغلظ لأجله الكلام عوف بن مالك عن خالد بن الوليد لما أخذ سلبه فقال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏لا ترد عليه‏"‏ أخرجه مسلم وبإحراق علي بن أبي طالب عليه السلام لطعام المحتكر ودور قوم يبيعون الخمر وهدمه دار جرير بن عبد اللَّه ومشاطرة عمر لسعد بن أبي وقاص في ماله الذي جاء به من العمل الذي بعثه إليه وتضمينه لحاطب ابن أبي بلتعة مثلي قيمة الناقة التي غصبها عبيده وانتحروها وتغليظه هو وابن عباس الدية على من قتل في الشهر الحرام في البلد الحرام‏.‏
‏"‏وقد أجيب‏"‏ عن هذه الأدلة بأجوبة‏:‏ أما عن حديث بهز فيما فيه من المقال وبما رواه ابن الجوزي في جامع المسانيد والحافظ في التلخيص عن إبراهيم الحربي أنه قال في سياق هذا المتن لفظة وهم فيها الراوي وإنما هو فإنا آخذوها من شطر ماله أي يجعل ماله شطرين ويتخير عليه المصدق ويأخذ الصدقة من خير الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة فأما ما لا يلزمه فلا وبما قال بعضهم إن لفظة وشطر ماله بضم الشين المعجمة وكسر الطاء المهملة فعل مبني للمجهول ومعناه جعل ماله شطرين يأخذ المصدق الصدقة من أي الشطرين أراد‏.‏
ويجاب عن القدح بما في الحديث من المقال بأنه مما لا يقدح بمثله‏.‏ وعن كلام الحربي وما بعده بأن الأخذ من خير الشطرين صادق عليه اسم العقوبة بالمال لأنه زائد على الواجب‏.‏ وأما حديث هم النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالإحراق فأجيب عنه بأن السنة أقوال وأفعال وتقريرات والهم ليس من الثلاثة ويرد بأنه صلى اللَّه عليه وآله وسلم لا يهم إلا بالجائز وأما حديث عمر فيما فيه من المقال المتقدم‏.‏ وكذلك أجيب عن حديث ابن عمرو ‏.‏ وأما حديث سعد بن أبي وقاص فبأنه من باب الفدية كما يجب على من يصيد صيد مكة وإنما عين صلى اللَّه عليه وآله وسلم نوع الفدية هنا

 

ج / 4 ص -124-       بأنها سلب العاضد فيقتصر على السبب لقصور العلة التي هي هتك الحرمة عن التعدية‏.‏ وأما حديث تغريم كاتم الضالة والمخرج غير ما يأكل من الثمر‏.‏ وقضية المددى فهي واردة على سبب خاص فلا يجاوز بها إلى غيره لأنها وسائر أحاديث الباب مما ورد على خلاف القياس لورود الأدلة كتابًا وسنة بتحريم مال الغير‏.‏ قال اللَّه تعالى ‏{لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً ‏}‏ ‏{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} وقال صلى اللَّه عليه وآله وسلم في خطبة حجة الوداع‏:‏ ‏"‏إنما دماؤكم وأموالكم وأعراضكم‏"‏ الحديث قد تقدم‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه‏"‏ وأما تحريق على طعام المحتكر ودور القوم وهدمه دار جرير فبعد تسليم صحة الإسناد إليه وانتهاض فعله للاحتجاج به يجاب عنه بأن ذلك من قطع ذرائع الفساد كهدم مسجد الضرار وتكسير المزامير‏.‏ وأما المروي عن عمر من ذلك فيجاب عنه بعد ثبوته بأنه أيضًا قول صحابي لا ينتهض للاحتجاج به ولا يقوى على تخصيص عمومات الكتاب والسنة وكذلك المروي عن ابن عباس‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عزمة من عزمات ربنا‏"‏ قال في البدر المنير‏:‏ عزمة خير مبتدأ محذوف تقديره ذلك عزمة وضبطه صاحب إرشاد الفقه بالنصب على المصدر وكلا الوجهين جائز من حيث العربية‏.‏ ومعنى العزمة في اللغة الجد في الأمر‏.‏ وفيه دليل على أن أخذ ذلك واجب مفروض من الأحكام‏.‏ والعزائم الفرائض كما في كتب اللغة‏.‏

باب صدقة المواشي
عن أنس‏:‏ ‏"‏أن أبا بكر كتب لهم إن هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التي أمر الله بها ورسوله فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوق ذلك فلا يعطه فيما دون خمس وعشرين من الإبل والغنم في كل خمس ذود شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين ففيها ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستًا وثلاثين ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستًا وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلى ستين، فإذا بلغت واحدة وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت ستًا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى تسعين، فإذا بلغت واحدةً وتسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فإذا تباين أسنان الإبل في فرائض الصدقات، فمن بلغت عنده صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرنا له أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها

 

ج / 4 ص -125-       تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرنا له أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليس عنده إلاّ جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدّق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغلت عنده صدقة الحقة وليس عنده وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون، وليست عنده إلاّ حقة فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده ابنة لبون وعنده ابنة مخاض فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض، وليس عنده إلا ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها‏.‏ وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدةً ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت ففي كل مائة شاة، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس، إلا أن يشاء المصدق، ولا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، وإذا كانت سائمة الرجل ناقصةً من أربعين شاة شاةً واحدةً فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها‏.‏ وفي الرقة ربع العشر، فإذا لم يكن المال إلا تسعين ومائةً، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها‏"‏‏.‏
رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبخاري وقطعه في عشرة مواضع ورواه الدارقطني كذلك، وله فيه في رواية في صدقة الإبل‏:‏ ‏"‏فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائةً ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة‏"‏‏.‏
قال الدارقطني هذا إسناد صحيح ورواته كلهم ثقات‏.‏

 

ج / 4 ص -126-       الحديث أخرجه أيضًا الشافعي والبيهقي والحاكم قال ابن حزم هذا كتاب في نهاية الصحة عمل بها الصديق بحضرة العلماء ولم يخالفه أحد وصححه ابن حبان أيضًا وغيره‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إن أبا بكر كتب لهم‏"‏ في لفظ للبخاري ‏"‏أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله ‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏التي فرض رسول الله‏"‏ معنى ‏"‏فرض‏"‏ هنا أوجب أو شرع يعني بأمر الله تعالى‏.‏ وفي معناه قدر لأن إيجابها ثابت بالكتاب فيكون المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ذلك‏.‏ قال في الفتح وقد يرد الفرض بمعنى البيان كقوله تعالى‏:‏ ‏{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }‏ وبمعنى الإنزال كقوله‏:‏ {‏ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}‏ وبمعنى الحل كقوله‏:‏ ‏{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}‏ وكل ذلك لا يخرج عن معنى التقدير‏.‏ وقد قال الراغب كل شيء ورد في القرآن فرض على فلان فهو بمعنى الإلزام وكل شيء ورد له فهو بمعنى لم يحرم عليه‏.‏ وذكر أن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ‏}‏ أي أوجب عليك العمل به، وهذا يؤيد قول الجمهور أن الفرض مرادف للوجوب، وتفريق الحنفية بين الفرض والواجب باعتبار ما يثبتان به لا مشاحة فيه، وإنما النزاع في حمل ما ورد من الأحاديث الصحيحة على ذلك، لأن اللفظ السابق لا يحمل على الاصطلاح الحادث انتهى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ورسوله‏"‏ في نسخة ‏"‏رسوله‏"‏ بدون واو وهو الصواب كما في البخاري وغيره‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ومن سئل فوق ذلك فلا يعطه‏"‏ أي من سئل زائدًا على ذلك في سن أو عدد فله المنع‏.‏ ونقل الرافعي الاتفاق على ترجيحه وقيل معناه فليمنع الساعي وليتول إخراجه بنفسه أو يدفعها إلى ساع آخر فإن الساعي الذي طلب الزيادة يكون بذلك متعديًا وشرطه أن يكون أمينًا‏.‏ قال الحافظ لكن محل هذا إذا طلب الزيادة بغير تأويل انتهى، ولعله يشير بهذا إلى الجمع بين هذا الحديث، وحديث أرضوا مصدقيكم، عند مسلم والنسائي، من حديث جرير، وحديث سيأتيكم ركب مبغضون فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبغون فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم، أخرجه أبو داود من حديث جابر بن عتيك‏.‏ وفي لفظ للطبراني من حديث سعد بن أبي وقاص، ‏"‏ادفعوا إليهم ما صلوا الخمس‏"‏ فتكون هذه الأحاديث محمولة على أن للعامل تأويلا في طلب الزائد على الواجب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الغنم‏"‏ هو مبتدأ وما قبله خبره وهو يدل على أن إخراج الغنم دون خمس وعشرين من الإبل متعين وإليه ذهب مالك وأحمد فا يجزى عندهما إخراج بعير عن أربع وعشرين‏.‏ وقال الشافعي والجمهور يجزي لأنه إذا أجزأ في خمس وعشرين فإجواؤه فيما دونها بالأولى‏.‏ قال في الفتح ولأن الأصل أن يجب في جنس المال وإنما عدل عنه رفقًا بالمالك فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه فإن كانت قيمة البعير مثلًا دون قيمة أربع شياه ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم، والأقيس أنه لا يجزى انتهى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏في كل خمس ذود شاة‏"‏ الذود بفتح الذال المعجمة وسكون الواو بعدها دال مهملة قال الأكثر، وهو من الثلاثة إلى العشرة

 

ج / 4 ص -127-       لا واحد له من لفظه‏.‏ وقال أبو عبيدة من الاثنين إلى العشرة قال وهو مختص بالإناث‏.‏ وقال سيبويه تقول ثلاث ذود لأن الذود مؤنث وليس باسم كسر عليه مذكر‏.‏ وقال القرطبي أصله ذاد يذود إذا دفع شيئًا فهو مصدر، وكأن من كان عنده دفع عن نفسه معرة الفقر وشدة الفاقة والحاجة‏.‏ وقال ابن قتيبة إنه يقع على الواحد فقط وأنكر أن يراد بالذود الجمع، قال ولا يصح أن يقال خمس ذود كما لا يصح أن يقال خمس ثوب، وغلطه بعض العلماء في ذلك، وقال أبو حاتم السجستاني تركوا القياس في الجمع فقالوا خمس من الإبل، كما قالوا ثلثمائة على غير قياس، قال القرطبي وهذا صريح في أن الذود واحد في لفظه‏.‏ قال الحافظ والأشهر ما قاله المتقدمون أنه لا يطلق على الواحد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإذا بلغت خمسًا وعشرين ففيها ابنة مخاض‏"‏ بنت المخاض بفتح الميم بعدها خاء معجمة خفيفة وآخره ضاد معجمة، هي التي أتى عليها حول ودخلت في الثاني وحملت أمها، والماخض الحامل والمراد أنه قد دخل وقت حملها، وإن لم تحمل وهذا يدل على أنه يجب في الخمس والعشرين إلى الخمس والثلاثين بنت مخاض وإليه ذهب الجمهور‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن علي ـ عليه السلام ـ أن في الخمس والعشرين خمس شياه، فإذا صارت ستًا وعشرين كان فيها بنت مخاض‏.‏ وقد روي عنه هذا مرفوعًا وموقوفًا، قال الحافظ وإسناد المرفوع ضعيف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فابن لبون ذكر‏"‏ هو الذي في السنة الثالثة وصارت أمه لبونًا بوضع الحمل‏.‏ وقوله ذكر تأكيد لقوله ابن لبون، وفيه دليل على جواز العدول إلى ابن اللبون عند عدم بنت المخاض‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ابنة لبون‏"‏ زاد البخاري ‏"‏أنثى‏"‏‏.‏
قوله ‏"‏حقة‏"‏ بكسر المهملة وتشديد القاف والجمع حقاق بالكسر وطروقه الفحل بفتح أوله أي مطروقة كحلوبة بمعنى محلوبة والمراد أنها بلغت أن يطرقها الفحل وهي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ففيها جذعة‏"‏ الجذعة بفتح الجيم والذال المعجمة وهي التي أتى عليها أربع سنين ودخلت في الخامسة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ففي كل أربعين بنت لبون‏"‏ المراد أنه يجب بعد مجاوزة المائة والعشرين بواحدة في كل أربعين بنت لبون فيكون الواجب في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، وإلى هذا ذهب الجمهور، ولا اعتبار بالمجاوزة بدون واحدة، كنصف أو ثلث أو ربع خلافًا للاصطخري فقال يجب ثلاث بنات لبون بزيادة بعض واحدة ويرد عليه ما عند الدارقطني في آخر هذا الحديث، وما في كتاب عمر الآتي بلفظ فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ومثله في كتاب عمرو بن حزم، وإلى ما قاله الجمهور ذهب الناصر والهادي في الأحكام حكى ذلك عنهما المهدي في البحر وحكى في البحر أيضًا عن علي وابن مسعود والنخعي وحماد والهادي وأبي طالب والمؤيد بالله وأبي العباس، أن الفريضة تستأنف بعد المائة والعشرين فيحب في الخمس شاة ثم كذلك‏.‏ واحتج لهم بقوله صلى الله عليه وسلم وما زاد على ذلك استؤنفت الفريضة وهذا إن صح كان محمولًا على الاستئناف المذكور في الحديث أعني إيجاب بنت اللبون في كل أربعين والحقة في كل خمسين جمعًا بين الأحاديث ـ لا يقال ـ إنه يرجع حديث الاستئناف بمعنى الرجوع إلى إيجاب شاة في كل خمس وعشرين على حسب التفصيل

 

ج / 4 ص -128-       المتقدم بأنه متضمن للايجاب يعني مثلا في الخمس الزائدة على مائة وعشرين وحديث الباب وما في معناه متضمن للإسقاط لأنا نقول هو وهم ناشيء من قوله‏:‏ ‏"‏وإذا زادت في كل أربعين‏"‏ فظن أن معناه في كل أربعين من الزيادة فقط وليس كذلك بل معناه في كل أربعين من الزيادة والمزيد‏.‏ وحكي في الفتح عن أبي حنيفة مثل قول علي وابن مسعود ومن معهما وقيده في البحر بأنه يقول بذلك إلى مائة وخمس وأربعين ثم له فيما زاد روايتان كالمذهب الأول وكالمذهب الثاني‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ويجعل معها شاتين‏"‏ إلخ فيه دليل على أنه يجب على المصدق قبول ما هو أدون ويأخذ التفاوت من جنس غير جنس الواجب وكذا العكس‏.‏ وذهبت الهاودية إلى أن الواجب إنما هو زيادة فضل القيمة من المصدق أو رب المال ويرجع في ذلك إلى التقويم، لكن أجاب الجمهور عن ذلك بأنه لو كان كذلك لم ينظر إلى ما بين السنين في القيمة وكان العرض يزيد تارة وينقص أخرى لاختلاف ذلك في الأمكنة والأزمنة فلما قدر الشارع التفاوت بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص كان ذلك هو الواجب في الأصل في مثل ذلك ولولا تقدير الشارع بذلك لتعينت بنت المخاض مثلا ولم يجز أن تبدل ابن لبون مع التفاوت‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنه يرجع القيمة فقط عند التعذر وذهب زيد بن علي إلى أن الفضل بين كل سنين شاة أو عشر دراهم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا أن يشاء ربها‏"‏ أي إلا أن يتطوع متبرعًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإذا زادت ففيها شاتان‏"‏ قد ورد ما يدل على تعيين أقل المراد من هذه الزيادة المطلقة، ففي كتاب عمرو بن حزم فإذا كانت إحدى وعشرين حتى تبلغ مائتين ففيها شاتان، وقد تقدم خلاف الاصطخري في ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ففي كل مائة شاة‏"‏ مقتضاه أنها لا تجب الشاة الرابعة حتى توفى أربعمائة شاة وهو مذهب الجمهور وعن بعض الكوفيين والحسن بن صالح ورواية عن أحمد إذا زادت على الثلثمائة واحدة وجبت الأربع‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏هرمة‏"‏ بفتح الهاء وكسر الراء هي الكبيرة التي سقطت أسنانها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا ذات عوار‏"‏ بفتح العين المهملة وضمها وقيل بالفتح فقط أي معيبة وقيل بالفتح العيب وبالضم العور‏.‏ واختلف في مقدار ذلك فالأكثر على أنه ما ثبت به الرد في البيع وقيل ما يمنع الأجزاء في الأضحية ويدخل في المعيب المريض والذكر بالنسبة إلى الأنثى والصغير بالنسبة إلى سن أكبر منه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا تيس‏"‏ بتاء فوقية مفتوحة وياء تحتية ساكنة ثم سين مهملة وهو فحل الغنم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا أن يشاء المصدق‏"‏ قال في الفتح في ضبطه يعني المصدق فالأكثر على أنه بالتشديد والمراد المالك وهو اختيار أبي عبيد وتقدير الحديث لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب أصلا، ولا يؤخذ التيس غلا برضا المالك محتاجا إليه ففي أخذه بغير اختياره إضرار به وعلى هذا فالاستثناء مختص بالثالث، ومنهم من ضبطه بتخفيف الصاد وهو الساعي، وكأنه أشير بذلك إلى التفويض إليه في اجتهاده لكونه يجىي مجرى الوكيل، فلا يتصرف بغير المصلحة، فيتقيد بما تقتضيه القواعد وهذا قول الشافعي انتهى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة‏"‏ قال في الفتح قال مالك في الموطأ معنى هذا أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت فيها الزكاة فيجمعونها حتى لا يجب عليهم

 

ج / 4 ص -129-       كلهم فيها إلا شاة واحدة أو يكون للخليطين مائتا شاة فيكون عليهما ثلاث شياة فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد منهما إلا شاة واحدة‏.‏ وقال الشافعي هو خطاب لرب المال من جهة والساعي من جهة فأمر كل منهما أن لا يحدث شيئًا من الجمع والتفريق خشية الصدقة، فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة فيجمع أو يفرق لتقل والساعي أن تقل الصدقة فيجمع أو يفرق لتكثر فمعنى قوله خشية الصدقة أي خشية أن تكثر أو تقل فلما كان محتملًا للأمرين لم يكن الحمل على أحدهما أولى من الآخر فحمل عليهما معًا لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر، واستدل به على أن من كان عنده دون النصاب من الفضة ودون النصاب من الذهب مثلًا أنه لا يجب ضم بعضه إلى بعض حتى يصير نصابًا كاملًا، فيجيء عليه فيه الزكاة خلافًا لمن قال بالضم كالمالكية والهادوية والحنفية‏.‏ واستدل به أحمد على أن من كان له ماشية ببلد لا تبلغ النصاب وله ببلد آخر ما يوفيه منها أنها لا تضم قال ابن المنذر وخالفه الجمهور فقال تجمع على صاحب المال أمواله ولو كانت في بلدان شتى ويخرج منها الزكاة‏.‏ واستدل به أيضًا على إبطال الحيلة والعمل على المقاصد المدلول عليها بالقرائن‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية‏"‏ قال في الفتح اختلف في المراد بالخليطين، فعند أبي حنيفة أنهما الشريكان قال ولا يجب على أحد منهما فيما يملك إلا مثل الذي كان يجب عليهما لو لم يكن خلط‏.‏ وتعقبه ابن جرير بأنه لو كان تفريقها مثل جمعها في الحكم لبطلت فائدة الحديث، وإنما نهى عن أمره لو فعله كان فيه فائدة ولو كان كما قال لم يكن لتراجع الخليطين بينهما بالسوية معنى‏.‏ ومثل تفسير أبي حنيفة روى البخاري عن سفيان وبه قال مالك، وقال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا والخلط عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل والشركة أخص منهما‏.‏ ومثل ذلك روى سفيان في جامعه عن عمر والمصير إلى هذا التفسير متعين‏.‏ ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكًا قوله تعالى‏:‏ ‏{وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ ‏}‏ وقد بينه قبل ذلك بقوله‏:‏ ‏{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ‏}‏ واعتذر بعضهم عن الحنفية بأن الحديث لم يبلغهم، أو أرادوا أن الأصل ليس فيما دون الخمس إلى عدد الخليط يكون به الجميع نصابًا فإنه يجب تزكية الجميع لهذا الحديث وما ورد في معناه ولا بد من الجمع بهذا‏.‏ ومعنى التراجع كما قال الخطابي أن يكون بينهما أربعون شاة مثلا لكل واحد منهما عشرون قد عرف كل منهما عين مالهى فيأخذ المصدق شاة فيرجع المأخوذ من ماله على خليطه بقيمة نصف كل منهما عين ماله فيأخذ المصدق من أحدهما شاة فيرجع المأخوذ من ماله على خليطه بقيمة نصف شاة، وهي تسمى خلط الجوار‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة‏"‏ لفظ شاة الأول منصوب على أنه مميز عدد أربعين ولفظ شاة الثاني منصوب أيضًا على أنه مميز نسبة ناقصة إلى السائمة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وفي الرقة‏"‏ بكسر الراء وتخفيف القاف هي الفضة الخالصة سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة‏.‏ قال

 

ج / 4 ص -130-       الحافظ قيل أصلها الورق فحذفت الواو وعوضت الهاء وقيل تطلق على الذهب والفضة بخلاف الورق وعلى هذا قيل أن الأصل في زكاة النقدين نصاب الفضة فإذا بلغ الذهب ما قيمته مائتا درهم فضة خالصة وجبت فيه الزكاة وهي ربع العشر، وهذا قول الزهري وخالفه الجمهور وسيأتي البحث عن ذلك في باب زكاة الذهب والفضة‏.‏
وعن الزهري عن سالم عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب الصدقة ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي، قال فأخرجها أبو بكر من بعده فعمل بها حتى توفي، ثم أخرجها عمر من بعده فعمل بها، قال فلقد هلك عمر يوم هلك، وإن ذلك لمقرون بوصيته، قال فكان فيها في الإبل في خمس شاة حتى تنتهي إلى أربع وعشرين فإذا بلغت إلى خمس وعشرين ففيها بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون، فإذا زادت على خمس وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإذا زادت ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا زادت ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون‏.‏ وفي الغنم من أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت شاة ففيها شاتان إلى مائتين فإذا زادت فيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت بعد فليس فيها شيء حتى تبلغ أربعمائة، فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة، وكذلك لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق مخافة الصدقة وما كان من خليطين، فهما يتراجعان بالسوية لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب من الغنم‏"‏‏.‏
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن‏.‏ وفي هذا الخبر من رواية الزهري عن سالم مرسلًا‏:‏ ‏"‏فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعًا وعشرين ومائة، فإذا كانت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقه حتى تبلغ تسعًا وثلاثين ومائةً، فإذا كانت أربعين ومائةً ففيها حقتان وبنت لبون حتى تبلغ تسعًا وأربعين ومائة، فإذا بلغت خمسين ومائةً ففيها ثلاث حقاق حتى تبلغ تسعًا وخمسين ومائةً‏.‏ فإذا كانت ستين

 

ج / 4 ص -131-       ومائةً ففيها أربع بنات لبون حتى تبلغ تسعًا وستين ومائةً‏.‏ فإذا كانت سبعين ومائةً ففيها ثلاث بنات لبون وحقة حتى تبلغ تسعًا وسبعين ومائة، فإذا بلغت ثمانين ومائةً ففيها حقتان وابنتا لبون حتى تبلغ تسعًا وثمانين ومائةً، فإذا كانت تسعين ومائةً ففيها ثلاث حقاق وابنة لبون حتى تبلغ تسعًا وتسعين ومائةً، فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون أي السنين وجدت أخذت‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
الحديث أخرج المرفوع منه أيضًا الدارقطني والحاكم والبيهقي ويقال تفرد بوصله سفيان بن حسين وهو ضعيف في الزهري خاصة والحفاظ من أصحاب الزهري لا يصلونه رواه أبو داود والدارقطني والحاكم عن أبي كريب عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري قال هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب في الصدقة وهي عند آل عمر‏.‏ قال ابن شهاب أقرأنيها سالم بن عمر فوعيتها على وجهها وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله وسالم ابني عبد الله بن عمر فذكر الحديث‏.‏ وقال البيهقي تابع سفيان بن حسين على وصله سليمان بن كثير‏.‏ وأخرجه أيضًا ابن عدي من طريقه ولكنه كما قال الحافظ لين في الزهري وقد اتفق الشيخان على إخراج حديث سليمان بن كثير والاحتجاج به‏.‏ وأخرج مسلم حديث سفيان بن حسين واستشهد به البخاري قال الترمذي في كتاب العلل سألت البخاري عن هذا الحديث فقال أرجوا أن يكون محفوظًا وسفيان بن حسين صدوق اهـ‏.‏ وضعف ابن معين هذا الحديث وقال تفرد به سفيان بن حسين ولم يتابع سفيان أحد عليه وسفيان ثقة دخل مع يزيد بن المهلب خراسان وأخذوا عنه‏.‏ وفي رواية للدارقطني في هذا الحديث أن في خمس وعشرين خمس شياه، وضعفها لأنها من طريق سليمان بن أرقم عن الزهري وهو ضعيف‏.‏
واعلم أن المرفوع من هذا الحديث هو بعض من حديث أنس السابق وقد تقدم شرحه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ففيها بنتا لبون وحقة‏"‏ الحقة عن خمسين وبنتا اللبون عن ثمانين، وكذلك إذا بلغت مائة وأربعين ففيها حقتان عن مائة وبنت لبون عن أربعين وإذا بلغت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق عن كل خمسين حقة، وإذا بلغت مائة وستين ففيها أربع بنات لبون عن كل أربعين واحدة، وإذا بلغت مائة وسبعين ففيها ثلاث بنات لبون عن مائة وعشرين وحقة عن خمسين، وإذا بلغت مائة وثمانين ففيها حقتان عن مائة وابنتا لبون عن ثمانين، وإذا بلغت مائة وتسعين ففيها ثلاث حقاق عن مائة وخمسين ونت لبون عن أربعين، وإذا بلغت مائتين ففيها أربع حقاق عن كل خمسين حقة أو خمس بنات لبون عن كل أربعين واحدة وهذا ألا يخالف ما تقدم في حديث أنس لأن قوله فيه ففي كل أربعين بنت لون وفي كل خمسين حقة، معناه مثل هذا لا فرق بينه وبينه إلا أنه

 

ج / 4 ص -132-       مجمل وهذا مفصل وزاد أبو داود في هذا الحديث بعد قوله ولا ذات عيب فقال وقال الزهري إذا جاء المصدق قسمت الشياه أثلاثًا ثلثًا شرارًا وثلثا خيارًا وسطًا فيأخذ من الوسط‏.‏
و عن معاذ بن جبل قال‏:‏ ‏"‏بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعةً، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارًا أو عدله معافر‏"‏‏.‏ ‏.‏ رواه الخمسة وليس لابن ماجه فيه حكم الحالم‏.‏
وعن يحيى بن الحكم ‏"‏أن معاذًا قال‏:‏ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق أهل اليمن فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعًا، ومن كل أربعين مسنةً فعرضوا علي أن آخذ ما بين الأربعين والخمسين وما بين الستين والسبعين وما بين الثمانين والتسعين، فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا ابن حبان وصححه الدارقطني والحاكم وصححه أيضًا من رواية أبي وائل عن مسروق عن معاذ‏.‏ ورواه أبو داود والنسائي من رواية أبي وائل عن معاذ ورجح الترمذي والدارقطني الرواية المرسلة، ويقال إن مسروقًا لم يسمع من معاذ وقد بالغ ابن حزم في تقرير ذلك‏.‏ وقال ابن القطان هو على الاحتمال وينبغي أن يحكم لحديثه بالاتصال على رأي الجمهور‏.‏ وقال ابن عبد البر في التمهيد إسناده متصل صحيح ثابت‏.‏ ووهم عبد الحق فنقل عنه أنه قال مسروع لم يلق معاذًا‏.‏ وتعقبه ابن القطان بأن أبا عمر إنما قال ذلك في رواية مالك عن حميد بن قيس عن طاوس عن معاذ وقد قال الشافعي طاوس عالم بأمر معاذ وإن لم يلقه لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذا وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافًا اهـ‏.‏ قال الحافظ في التلخيص ورواه البزار والدارقطني من طريق ابن عباس بلفظ ‏"‏لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعة جذعًا أو جذعة‏"‏ الحديث‏.‏ لكنه من طريق بقية عن المسعودي وهو ضعيف‏.‏ والرواية الثانية المذكورة عن معاذ أخرجها أيضًا البزار وفي إسناده الحسن ابن عمارة وهو ضعيف ويدل على ضفعه ذكره فيها لقدوم معاذ على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقدم إلا بعد موته‏.‏ وقد أخرج نحو هذه الرواية مالك في الموطأ من طريق طاوس عن معاذ وليس عند أن معاذًا قدم من قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بل صرح فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم مات قبل قدومه‏.‏
وحكى الحافظ عن عبد الحق أنه ليس في زكاة البقر حديث متفق على صحته يعني في النصب‏.‏ وحكي أيضًا عن ابن جرير الطبري أنه قال صح الإجماع المتيقن المقطوع به الذي لا اختلاف فيه أن في كل خمسين بقرة بقرة فوجب الأخذ بها وما دون ذلك مختلف فيه ولا نص في إيجابه‏.‏ وتعقبه

 

ج / 4 ص -133-       صاحب الإمام بحديث عمرو ابن حزم الطويل في الديات وغيرها فإن فيه في كل ثلاثين باقورة تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين باقورة بقرة وحكى أيضًا عن ابن عبد البر أنه قال في الاستذكار لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ وأنه النصاب المجمع عليه فيها اهـ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من كل ثلاثين من البقر‏"‏ فيه دليل على أن الزكاة لا تجب فيما دون الثلاثين وإليه ذهبت العترة والفقهاء وحكي في البحر عن سعيد بن المسيب والزهري أنها تجب في خمس وعشرين منها كالإبل ورده بأن النصب لا تثبت بالقياس وإن سلم فالنص مانع‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏تبيعًا أو تبيعة‏"‏ التبيع على ما في القاموس والنهاية ما كان في أول سنة وفي حديث عمرو بن حزم جذع أو جذعة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏مسنة‏"‏ حكي في النهاية عن الأزهري أن البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن إذا كان في السنة الثانية والاقتصار على المسنة في الحديث يدل على أنه لا يجزئ المسن ولكنه أخرج الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا ‏"‏وفي كل أربعين مسنة أو مسن‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ومن كل حالم دينارًا‏"‏ فسره أبو داود بالمحتلم والمراد به أخذ الجزية ممن لم يسلم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏معافر‏"‏ بالعين المهملة حي من همدان لا ينصرف لما فيه من صيغة منتهى المجموع وإليهم تنسب الثياب المعافرية، والمراد هنا الثياب المعافرية كما فسره بذلك أبو داود‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أن الأوقاص‏"‏ إلخ هي جمع وقص بفتح الواو والقاف ويجوز إسكانها وإبدال الصاد سينًا، وهو ما بين الفرضين عند الجمهور، واستعمله الشافعي فيما دون النصاب الأول‏.‏ وقد وقع الاتفاق على أنه لا يجب فيها شيء من البقر إلا في رواية عن أبي حنيفة فإنه أوجب فيما بين الأربعين والستين ربع مسنة، وروي عنه وهو المصحح له أنه يجب قسطه من المسنة‏.‏
‏"‏وعن رجل يقال له سعر عن مصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما قالا‏:‏ نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأخذ شافعًا، والشافع التي في بطنها ولدها‏"‏‏.‏
‏"‏وعن سويد بن غفلة قال‏:‏ أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول‏:‏ إن في عهدي أنا لا نأخذ من راضع لبن ولا نفرق بين مجتمع، ولا نجمع بين مفترق، وأتاه رجل بناقة كوماء فأبى أن يأخذها‏"‏‏.‏ رواهما أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏
الحديث الأول أخرجه أيضًا الطبراني وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجال إسناده ثقات‏.‏ والحديث الثاني أخرجه أيضًا الدارقطني والبيهقي وفي إسناده هلال بن حباب وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه بعضهم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏يقال له سعر‏"‏ بكسر السين المهملة وسكون العين المهملة وآخره راء كذا في جامع الأصول ومختصر المنذري‏.‏ وفي كتاب ابن عبد البر بفتح السين المهملة وهو ابن ديسم بفتح الدال المهملة وسكون الياء التحتية وفتح السين

 

ج / 4 ص -134-       المهملة الكناني الديلي روى عنه اينه جابر هذا الحديث ذكر الدارقطني وغيره أن له صحبة وقيل كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على ما جاء في هذا الحديث‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من راضع لبن‏"‏ فيه دليل على أنها لا تؤخذ الزكاة من الصغار التي ترضع اللبل وظاهره سواء كانت منفردة أو منضمة إلى الكبار ومن أوجبها فيها عارض هذا بما أخرجه مالك في الموطأ والشافعي وابن حزم أن عمر قال لساعيه سفيان بن عبد الله الثقفي اعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي على يده ولا تأخذها كما سيأتي وهو مبين على جواز التخصيص بمذهب الصحابي والحق خلافه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كوماء‏"‏ بفتح الكاف وسكون الواو هي الناقة العظيمة السنام‏.‏
ـ والحديثان ـ يدلان على أنه لا يجوز للمصدق أن يأخذ من خيار الماشية‏.‏ وقد أخرج الشيخان من حديث ابن عباس ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له إياك وكرائم أموالهم‏"‏ وقد تقدم على قوله ولا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق‏.‏
وعن عبد الله بن معاوية الغاضري من غاضرة قيس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثلاث من فعلهن طعم طعم الإيمان من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه رافدةً عليه كل عام ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا الطبراني وجود إسناده وسياقه أتم سندًا ومتنًا‏.‏ وذكره أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة مسندًا وعبد الله هذا له صحبة وهو معدود في أهل حمص قيل إنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثًا واحدًا والغاضري بالغين والضاد المعجمتين‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏رافدة‏"‏ المعينة والمعطية والمراد هنا المعنى الأول أي معينة له على أداء الزكاة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا الدرنة‏"‏ بفتح الدال المهملة مشددة بعدها راء مكسورة ثم نون وهي الجرباء قاله الخطابي وأصل الدرن الوسخ كما في القاموس وغيره‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا الشرط اللئيمة‏"‏ ‏"‏الشرط‏"‏ بفتح الشين المعجمة والراء‏.‏ قال أبو عبيد هي صغار المال وشراره واللئيمة البخيلة باللبن‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولكن من وسط أموالكم‏"‏ إلخ فيه دليل على أنه ينبغي أن يخرج من الزكاة من أوساط المال لا من شراره ولا من خياره‏.‏
وعن أبي بن كعب قال‏:‏ ‏"‏بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقًا فمررت برجل فلم أجد عليه في ماله إلا ابنة مخاض فأخبرته أنه صدقته، فقال ذلك مالا لبن فيه ولا ظهر، وما كنت لأقرض الله ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة سمينة فخذها فقلت

 

ج / 4 ص -135-       ما أنا بآخذ ما لم أومر به فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فخرج معي وخرج بالناقة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ذاك الذي عليك، وإن تطوعت بخير قبلناه منك، وأجرك الله فيه قال فخذها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له بالبركة‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا أبو داود بأتم مما هنا وصححه الحاكم وفي إسناده محمد بن إسحاق‏.‏ وخلاف الإئمة في حديثه مشهور إذا عنعن وهو هنا قد صرح بالتحديث‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا ظهر‏"‏ يعني أن بنت المخاض ليست ذات لبن ولا صالحة للركوب عليها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولكن هذه ناقة سمينة‏"‏ لفظ أبي داود ‏"‏ولكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏منك قريب‏"‏ زاد أبو داود ‏"‏فإن أحببت أن تأتيه فتعرض عليه ما عرضت علي فافعل فأن قبله منك قبلته وإن رده عليك رددته قال فإني فاعل فخرج معي بالناقة التي عرضت علي‏"‏ إلخ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فاخبره الخبر‏"‏ لفظ أبي داود ‏"‏فقال له يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مال وأيم الله ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسول قط قبله فجمعت مالي فزعم أن ما علي فيه إلا ابنة مخاض‏"‏ ثم ذكر نحو ما تقدم‏.‏
ـ والحديث ـ يدل على جواز أخذ سن أفضل من السن التي تجب على المالك إذا رضي بذلك وهو مما لا أعلم فيه خلافًا‏.‏
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ ‏"‏تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة ولا الربي ولا الماخض ولا فحل الغنم وتأخذ الجذعة والثنية وذلك عدل بين غذاء المال وخياره‏"‏‏.‏
رواه مالك في الموطأ‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا الشافعي وابن حزم وأغرب ابن أبي شيبة فرواه مرفوعًا‏.‏ قال حدثنا أبو أسامة عن النهاس بن فهم عن الحسن بن مسلم قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سفيان بن عبد الله على الصدقة الحديث ورواه أيضًا أبو عبيد في الأموال من طريق الأوزاعي عن سالم بن عبد الله المحاربي أن عمر بعث مصدقًا فذكر نحوه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عليهم بالسخلة‏"‏ استدل به على وجوب الزكاة في الصغار وقد تقدم في المرفوع من حديث سويد بن غفلة ما يخالفه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الأكولة‏"‏ بفتح الهمزة وضم الكاف العاقر من الشياه والشاة تعزل للأكل هكذا في القاموس وأما الأكولة بضم الهمزة فهي قبيحة المأكول، وليست مرادة هنا لأن السياق في تعداد الخيار‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا الربي‏"‏ بضم الراء وتشديد الباء الموحدة هي الشاه التي تربي في البيت للبنها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا فحل الغنم‏"‏ إنما منعه من أخذه مع كونه لا يعد من الخيار لأن المالك يحتاج إليه لينزو على الغنم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وتأخذ الجذعة والثنية‏"‏ المراد الجذعة من الضأن والثنية من المعز ويدل على ذلك ما في بعض روايات حديث سويد بن غفلة المتقدم أن المصدق قال إنما حقنا في الجذعة من الضأن والثنية من المعز‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بين غذاء المال‏"‏ الغذاء الغين المعجمة

 

ج / 4 ص -136-       المكسورة بعدها ذال معجمة جمع غذي كغني السخال‏.‏
ـ وقد استدل ـ بهذا الأثر على أن الماشية تؤخذ في الصدقة هي المتوسطة بين الخيار والشرار في المرفوع النهي عن كرائم الأموال كما تقدم من حديث معاذ وعن المعيب كما تقدم في حديث أنس وعمر والأمر بأخذ الوسط كما تقدم في حديث الغاضري‏.‏

باب لا زكاة في الرقيق والخيل والحمر
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه‏"‏‏.‏
رواه الجماعة‏.‏ ولأبي داود‏:‏ ‏"ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر‏"‏ ، ولأحمد ومسلم‏:‏ ‏"‏ليس للعبد صدقة إلا صدقة الفطر ‏"‏‏.‏
‏"‏وعن عمر وجاءه ناس من أهل الشام فقالوا‏:‏ إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقًا نحب أن يكون لها فيها زكاة وطهور، قال ما فعله صاحباي قبلي فأفعله، واستشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم علي رضي الله عنه فقال علي هو حسن إن لم تكن جزية راتبةً يؤخذون بها من بعدك‏.‏ رواه أحمد‏"‏‏.‏
وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمير فيها زكاة، فقال‏:‏ ما جاءني فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة‏:‏ ‏{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ‏.‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ‏}‏‏"‏
رواه أحمد، وفي الصحيحين معناه‏.‏ الأثر المروي عن عمر في مجمع الزوائد رجاله ثقات‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه‏"‏ قال ابن رشيد أراد بذلك الجنس في الفرس والعبد لا الفرد الواحد إذ لا خلاف في ذلك في العبد المتصرف والفرس المعد للركوب ولا خلاف أيضًا أنها لا تؤخذ من الرقاب وإنما قال بعض الكوفيين تؤخذ منها بالقيمة‏.‏ وقال أبو حنيفة إنها تجب في الخيل إذا كانت ذكرانا وإناثًا؛ نظرًا إلى النسل وله في المنفردة روايتان، ولا يرد عليه أنه يلزم مثل هذا في سائر السوائم إذا انفردت لعدم التناسل، لأنه يقول إنه إذا عدم التناسل حصل فيها النمو للأكل والخيل لا تؤكل عنده‏.‏ قال الحافظ ثم عنده أن المالك يتخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارًا أو يقوم ويخرج ربع العشر وهذا الحديث يرد عليه‏.‏ وأجيب من جهته بحمل النفي فيه على الرقبة لا على القيمة وهو خلاف الظاهر‏.‏ ومن جهة ما يرد عليه حديث علي عند أبي داود بإسناد حسن مرفوعًا قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة وسيأتي‏.‏ واستدل على الوجود بما وقع في صحيح

 

ج / 4 ص -137-       مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال في الخيل ‏"‏ثم لم ينس حق الله في ظهورها‏"‏ وقد تقدم الجواب عن ذلك في شرح حديث أبي هريرة ـ ومن جملة ـ ما استدل به ما أخرجه الدارقطني والبيهقي والخطيب من حديث جابر عنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم‏"‏ وهذا الحديث مما لا تقوم به حجة لأنه قد ضعفه الدارقطني والبيهقي فلا يقوى على معارضة حديث الباب الصحيح وتمسك أيضًا بما روي عن عمر أنه أمر عامله بأخذ الصدقة من الخيل وقد تقرر أن أفعال الصحابة وأقوالهم لا حجة فيها لا سيما بعد إقرار عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر لم يأخذ الصدقة من الخيل كما في الرواية المذكورة في الباب‏.‏
ـ وقد احتج ـ بظاهر حديث الباب الظاهرية فقالوا لا تجب الزكاة في الخيل والرقيق لا لتجارة ولا لغيرها، وأجيب عنهم بأنه زكاة التجارة ثابتة بالإجماع كما نقله ابن المنذر وغيره فيخص به عموم هذا الحديث، ولا يخفى أن الإجماع على وجوب زكاة التجارة في الجملة لا يستلزم وجوبها في كل نوع من أنواع المال لأن مخالفة الظاهرية في وجوبها في الخيل والرقيق الذي هو محل النزاع مما يبطل الاحتجاج عليهم بالإجماع على وجوبها فيهما فالظاهر ما ذهب إليه أهله‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إن لم تكن جزية‏"‏ إلخ ظاهر هذا أن عليًا لا يقول بجواز أخذ الزكاة من هذين النوعين، وإنما حسن الأخذ من الجماعة المذكورين لكونهم قد طلبوا من عمر ذلك‏.‏ وحديث أبي هريرة المذكور في الباب هو طرف من حديثه المتقدم في أول الكتاب وقد شرحناه هنالك وقد استدل به علي على عدم وجوب الزكاة في الحمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن زكاتها فلم يذكر أن فيها الزكاة والبراءة الأصلية مستصحبة والأحكام التكليفية لا تثبت بدون دليل ولا أعرف قائلًا من أهل العلم يقول بوجوب الزكاة في الحمير لغير تجارة واستغلال‏.‏

باب زكاة الذهب والفضة
عن علي عليه السلام قال‏:‏ ‏"‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهمًا درهمًا وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم‏"‏‏.‏
رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وفي لفظ‏:‏ ‏"‏قد عفوت لكم عن الخيل والرقيق وليس فيما دون المائتين زكاة‏"‏‏.‏
رواه أحمد والنسائي ‏.‏
الحديث روي من طريق عاصم بن ضمرة عن علي‏.‏ ومن طريق الحرث الأعور عن علي أيضًا قال الترمذي روى هذا الحديث الأعمش وأبو عوانة وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي‏.‏ وروى سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي وسألت محمد يعني البخاري عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح اهـ‏.‏ وقد حسن هذا الحديث الحافظ وقال الدارقطني الصواب وقفه على علي‏.‏
ـ الحديث ـ يدل على وجوب الزكاة في الفضة

 

ج / 4 ص -138-       وهو مجمع على ذلك‏.‏ ويدل أيضًا على أن زكاتها ربع العشر ولا أعلم في ذلك خلافًا‏.‏ ويدل أيضًا على اعتبار النصاب في زكاة الفطر وهو إجماع أيضًا، وعلى أنه مائتا درهم قال الحافظ ولم يخالف في نصاب الفضة مائتا درهم إلا ابن حبيب الأندلسي فإنه قال إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهم‏.‏ وذكر ابن عبد البر اختلافًا في الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلدان قيل وبعضها اعتبر النصاب بالعدد لا بالوزن وهو خارق للإجماع، وهذا البعض الذي أشار إليه هو المريسي وبه قال المغربي من الظاهرية كما في البحر، وقد قوي كلام هذا المغربي الظاهري المغربي الصنعاني في شرح بلوغ المرام، وقال إنه الظاهر إن لم يمنع منه إجماع وحكى في البحر عن مالك أنه يغتفر نقص الحبة والحبتين ولا بد أن يكون النصاب خالصًا عن الغش كما تقدم إليه الجمهور‏.‏ وقال المؤيد بالله والإمام يحيى إنه يغتفر اليسير وقدره الإمام يحيى بالعشر فما دون‏.‏ وحكي في البحر عن أبي حنيفة أنه يغتفر ما دون النصف وسيأتي تحقيق مقدار الدرهم‏.‏
ـ وفي الحديث ـ أيضًا دليل على أنه لا زكاة في الخيل والرقيق وقد تقدم الكلام على ذلك‏.‏
وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة‏"‏‏.‏
رواه أحمد ومسلم وهو لأحمد والبخاري من حديث أبي سعيد ‏.‏
وعن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون دينار‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
حديث أبي سعيد المشار إليه هو متفق عليه‏.‏ ولفظه في البخاري ‏"‏ليس فيما دون خمسة أوسق في التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة‏"‏ وحديث علي هو من حديث أبي إسحاق عن الحرث الأعور وعاصم بن ضمرة عنه وقد تقدم أن البخاري قال كلاهما عنده صحيح وقد حسنه الحافظ والحرث ضعيف وقد كذبه ابن المديني وغيره وروى عن ابن معين توثيقه وعاصم وثقه ابن المديني وقال النسائي ليس به بأس‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏خمس أواق‏"‏ بالتنوين وبإثبات التحتية مشددًا ومخففًا، جمع أوقية بضم الهمزة وتشديد التحتانية وحكى اللحياني وقية بحذف الألف وفتح الواو‏.‏ وقال الفتح مقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهما بالاتفاق والمراد بالدرهم الخالص من الفضة سواء كان مضروبًا أو غير مضروب‏.‏ قال عياض أبو عبيد إن الدرهم لم يكن معلوم القدر حتى جاء عبد الملك بن مروان فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل قال وهذا يلزم منه أن يكون صلى الله عليه وسلم

 

ج / 4 ص -139-       أحال نصاب الزكاة على أمر مجهول وهو مشكل والصواب أن معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام وكانت مختلفة في الوزن فعشرة مثلًا وزن عشرة وعشرة وزن ثمانية فاتفق الرأي على أن تنقش بالكتابة العربية ويصير وزنها وزنًا واحد وقال غيره لم يتغير المثقال في جاهلية ولا إسلام‏.‏ وأما الدرهم فأجمعوا على أن كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم اهـ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من الورق‏"‏ قد تقدم الكلام عليه وكذا تقدم الكلام على قوله خمس ذود‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏خمسة أوسق‏"‏ جمع وسق بفتح الواو ويجوز كسرها كما حكاه صاحب المحكم وجمعه حينئذ أوساق كحمل وأحمال وهو ستون صاعًا بالاتفاق وقد وقع في رواية ابن ماجه من طريق أبي البختري عن أبي سعيد نحو هذا الحديث وفيه الوسق ستون صاعًا‏.‏ وأخرجها أبو داود أيضًا لكن قال ستون مختومًا‏.‏ وللدارقطني من طريق عائشة الوسق ستون صاعًا وفيه دليل على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق وسيأتي البحث عن ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عشرون دينارًا‏"‏ الدينار مثقال درهم وثلاثة أسابع درهم والدرهم ستة دوانيق والدانق قيراطان والقيراط طسوجان والطسوج حبتان والحبة سدس ثمن درهم وهو جزء من ثمانية وأربعين جزأ من درهم كذا في القاموس في فصل الميم من حرف الكاف وفيه دليل على أن نصاب الذهب عشرون دينار، وإلى ذلك ذهب الأكثرون وروي عن الحسن البصري أن نصابه أربعون وروي عنه مثل قول الأكثر ونصابه معتبر في نفسه‏.‏ وقال طاوس‏:‏ إنه يعتبر في نصابه التقويم بالفضة فما بلغ منه ما يقوم بمائتي درهم وجبت فيه الزكاة ويرده الحديث‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وحال عليها الحول‏"‏ فيه دليل على اعتبار الحول في زكاة الذهب ومثله الفضة‏.‏ وإلى ذلك ذهب الأكثر‏.‏ وذهب ابن عباس وابن مسعود والصادق والباقر والناصر وداود إلى أنه يجب على المالك إذا استفاد نصابًا أن يزكيه في الحال تمسكًا بقوله في الرقة ربع العشر وهو مطلق مقيد بهذا الحديث فاعتبار الحول لا بد منه والضعف الذي في حديث الباب منجبر بما عند ابن ماجه والدارقطني والبيهقي والعقيلي من حديث عائشة من اعتبار الحول‏.‏ وفي إسناده حارثة بن أبي الرجال وهو ضعيف وبما عند الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر مثله وفيه إسماعيل ابن عياش وحديثه عن غير أهل الشام ضعيف وبما عند الدارقطني من حديث أنس وفيه حسان بن سياه وهو ضعيف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ففيها نصف دينار‏"‏ فيه دليل على أن زكاة الذهب ربع العشر ولا أعلم فيه خلافًا‏.‏

باب زكاة الزرع والثمار
عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏فيما سقت الأنهار والغيم العشور وفيما سقي بالسانية نصف العشور‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال الأنهار والعيون ‏.‏
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏فيما سقت السماء والعيون أو

 

ج / 4 ص -140-       كان عثريًا العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر‏"‏‏.‏
رواه الجماعة إلا مسلمًا، لكن لفظ النسائي وأبي داود وابن ماجه‏:‏ ‏"‏بعلا‏"‏ بدل ‏"‏عثريًا‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والغيم‏"‏ بفتح الغين المعجمه وهو المطر وجاء في رواية ‏"‏الغيل‏"‏ باللام‏.‏ قال أبو عبيد هو ما جرى من المياه في الأنهار وهو سيل دون السيل الكبير‏.‏ وقال ابن السكيت هو الماء الجاري على الأرض‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏العشور‏"‏ قال النووي ضبطناه بضم العين جمع عشر‏.‏ وقال القاضي عياض ضبطناه عن عامة شيوخنا بفتح العين وقال وهو اسم للمخرج من ذلك‏.‏ وقال صاحب المطالع أكثر الشيوخ يقولونه الضم وصوابه الفتح‏.‏ وقال النووي وهذا الذي ادعاه من الصواب ليس بصحيح وقد اعترف بأن أكثر الرواة رووه بالضم وهو بالضم وهو الصواب جمع عشر وقد اتفقوا على قولهم عشور أهل الذمة بالضم ولا فرق بين اللفظين‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بالسانية‏"‏ هي البعير الذي يستقي به الماء من البئر ويقال له الناضح يقال منه سنا يسنو سنوًا إذا استقى به‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فيما سقت السماء‏"‏ المراد بذلك المطر أو الثلج أو البرد أو الطل والمراد بالعيون الأنهار الجارية التي يستقي منها من دون اغتراف بآلة بل تساح إساحة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو كان عثريًا‏"‏ هو بفتح العين المهملة وفتح الثاء المثلثة وكسر الراء وتشديد المثلثة التحتانية وحكي عن ابن الأعرابي تشديد المثلثة ورده ثعلب قال الخطابي هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي زاد بن قدامة عن القاضي أبي يعلى وهو المستنقع في بركه ونحوها يصب إليه ماء المطر في سواق تستقى إليه‏.‏ قال واشتقاقه من العاثور وهي الساقية التي يجري فيها الماء لأن الماشي يتعثر فيها قال ومثله الذي يشرب من الأنهار بغير مؤونة أو يشرب بعروقه كأن يغرس في أرض يكون الماء قريبًا من وجهها فتصل إليه عروق الشجر فيستغنى عن السقي‏.‏ قال الحافظ وهذا التفسير أولى من إطلاق أبي عبيد أن العثري ما سقته السماء لأن سياق الحديث يدل على المغايرة وكذا قول من فسر العثري بأنه الذي لا حمل له لأنه لا زكاة فيه‏.‏ قال ابن قدامة لا نعلم في هذه التفرقة التي ذكرها خلافًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بالنضح‏"‏ بفتح النون وسكون الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة أي بالسانية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بعلا‏"‏ بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة ويروي بضمها قال في القاموس البعل الأرض المرتفعة تمطر في السنة مرة وكل نخل وزرع لا يسقى أو ما سقته السماء اهـ‏.‏ وقيل هو الأشجار التي تشرب بعروقها من الأرض‏.‏ ـ والحديثان ـ يدلان على أنه يجب العشر فيما سقي بماء السماء والأنهار ونحوهما مما ليس فيه مؤنة كثيرة ونصف العشر فيما سقي بالنواضح ونحوها مما فيه مؤنة كثيرة قال النووي وهذا متفق عليه وإن وجد مما يسقى بالنضح تارة وبالمطر أخرى فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب ثلاثة أرباع العشر وهو قول أهل العلم‏.‏ قال ابن قدامة لا نعلم فيه خلافًا وإن كان أحدهما أكثر كان حكم الأقل تبعًا للأكثر عند أحمد والثوري وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي‏.‏ وقيل يؤخذ بالتقسيط قال الحافظ ويحتمل أن يقال إن أمكن فصل كل واحد منهما أخذ بحسابه وعن ابن القاسم صاحب مالك العبرة بما تم به الزرع ولو كان أقل‏.‏

 

ج / 4 ص -141-       وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة‏"‏‏.‏
رواه الجماعة، وفي لفظ لأحمد ومسلم والنسائي‏:‏ ‏"‏ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة‏"‏ ولمسلم في رواية‏:‏ ‏"‏من ثمر‏"‏ بالثاء ذات النقط الثلاث ‏.‏
وعن أبي سعيد أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الوسق ستون صاعًا‏"‏‏.‏
رواه أحمد وابن ماجه ولأحمد وأبي داود‏:‏ ‏"‏ليس فيما دون خمسة أوساق زكاة، والوسق ستون مختومًا‏.‏
قوله‏:‏ ليس فيما دون خمسة أوسق‏"‏ قدم تقدم تفسير الوسق والأواقي والذود‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الوسق ستون صاعًا‏"‏ هذا الحديث أخرجه الدارقطني وابن حبان من طريق عمرو بن أبي يحيى عن أبيه عن أبي سعيد وأخرجه أيضًا النسائي وأبو داود وابن ماجه من طريق أبي البختري عن أبي سعيد قال أبو داود وهو منقطع لم يسمع أبو البختري من أبي سعيد‏.‏ وقال أبو حاتم لم يدركه‏.‏ وأخرج البيهقي نحوًا من حديث ابن عمر وابن ماجه من حديث جابر، وإسناده ضعيف‏.‏ قال الحافظ وفيه عن عائشة وعن سعيد بن المسيب‏.‏
وحديث ‏"‏ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة‏"‏ مخصص لعموم حديث جابر المتقدم في أول الباب‏.‏ ولحديث عمر المذكور بعده لأنهما يشملان الخمسة الأوسق وما دونهما‏.‏ وحديث أبي سعيد هذا خاص بقدر الخمسة الأوسق فلا تجب الزكاة فيما دونها‏.‏ وإلى هذا ذهب الجمهور وذهب ابن عباس وزيد بن علي والنخعي وأبو حنيفة إلى العمل بالعام، فقالوا تجب الزكاة في القليل والكثير ولا يعتبر النصاب، وأجابوا عن حديث الأوساق بأنه لا ينتهض لتخصيص حديث العموم لأنه مشهور‏.‏ وله حكم المعلوم، وهذا إنما يتم على مذهب الحنفية القائلين، بأن دلالة العموم قطيعة وأن العمومات القطعية لا تخصص بالظنيات، ولكن ذلك لا يجري فيما نحن بصدده فإن العام والخاص ظنيان كلاهما، والخاص أرجح دلالة وإسنادًا فيقدم على العام تقدم أو تأخر أو قارن على ما هو الحق، من أنه يبنى العام على الخاص مطلقًا، وهكذا يجب البناء إذا جهل التاريخ، وقد قيل إن ذلك إجماع والظاهر أن مقام النزاع من هذا القبيل، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق مما أخرجت الأرض إلا أن أبا حنيفة قال تجب في جميع ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلا الحطب والقضب والحشيش والشجر الذي ليس له ثمر اهـ‏.‏ وحكى عياض عن داود أن كل ما يدخله الكيل يراعى فيه النصاب وما لا يدخل فيه الكيل ففي قليله وكثيره الزكاة وهو نوع من الجمع‏.‏ وقال ابن العربي أقوى المذاهب وأحوطهما للمساكين قول أبي حنيفة وهو التمسك بالعموم اهـ‏.‏ وههنا مذهب ثالث حكاه صاحب البحر عن الباقر والصادق أنه يعتبر النصاب في التمر والزبيب والبر

 

ج / 4 ص -142-       والشعير إذ هي المعتادة فانصرف إليها وهو قصر للعام على بعض ما يتناوله بلا دليل‏.‏
5- وعن عطاء بن السائب قال‏:‏ ‏"‏أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضروات صدقةً، فقال له موسى بن طلحة ليس لك ذلك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ليس في ذلك صدقة‏"‏‏.‏
رواه الأثرم في سننه، وهو من أقوى المراسيل لاحتجاج من أرسله به ‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا الدارقطني والحاكم من حديث إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ بلفظه‏.‏ وأما القثاء والبطيخ والرمان والقضب فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الحافظ وفيه ضعف وانقطاع‏.‏ وروى الترمذي بعضه من حديث عيسى بن طلحة عن معاذ وهو ضعيف‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يعني في الخضروات‏:‏ وإنما يروى عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا‏.‏ وذكر الدارقطني في العلل وقال الصواب مرسل‏.‏ وروى البيهقي بعضه من حديث موسى بن طلحة قال عندنا كتاب معاذ‏.‏ ورواه الحاكم وقال موسى تابعي كبير لا ينكر أنه لقي معاذًا‏.‏ وقال ابن عبد البر لم يلق معاذًا ولا أدركه وكذلك قال أبو زرعة وروى البزار والدارقطني من طريق الحرث بن نبهان عن عطاء بن السائب عن موسى بن طلحة عن أبيه مرفوعًا ‏"‏ليس في الخضروات صدقة‏"‏ قال البزار لا نعلم أحدًا قال فيه عن أبيه إلا الحرث بن نبهان وقد حكى ابن عدي تضعيفه عن جماعة والمشهور عن موسى مرسل ورواه الدارقطني من طريق ملاوان بن محمد السنجاري عن جرير عن عطاء بن السائب فقال عن أنس بدل قوله عن أبيه ولعله تصحيف منه، ومروان مع ذلك ضعيف جدًا‏.‏ وروى الدارقطني من حديث علي مثله وفيه الصقر بن حبيب وهو ضعيف جدًا‏.‏ ـ وفي الباب ـ عن محمد بن جحش عند الدارقطني وفي إسناده عبد الله بن شبيب‏.‏ قيل عنه إنه يسرق الحديث‏.‏ وعن عائشة عند الدارقطني أيضًا وفيه صالح بن موسى وفيه ضعف‏.‏ وعن علي موقوفًا عند البيهقي‏.‏ وعن عمر كذلك عنده‏.‏
ـ والحديث يدل ـ على عدم وجوب الزكاة في الخضروات وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي وقالا إنما تجب الزكاة فيما يكال ويدخر للاقتيات‏.‏ وعن أحمد أنها تخرج مما يكال ويدخر ولو كان لا يقتات وبه قال أبو يوسف ومحمد وأوجبهما في الخضروات الهادي والقاسم إلا الحشيش والحطب لحديث ‏"‏الناس شركاء في ثلاث‏"‏ ووافقهما أبو حنيفة إلا أنه استثنى السعف والتبن واستدلوا على وجوب الزكاة في الخضروات بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ‏}‏ وقوله ‏{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ‏}‏ وبعموم حديث ‏"‏فيما سقت السماء العشر‏"‏ ونحوه قالوا وحديث الباب ضعيف لا يصلح لتخصيص هذه العمومات‏.‏ وأجيب بأن طرقه يقوي بعضها بعضًا فينتهض لتخصيص هذه العمومات ويقوي ذلك ما

 

ج / 4 ص -143-       أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني من حديث ‏"‏أبي موسى ومعاذ حين بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فقال "لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة الشعير والحنطة والزبيب والتمر"‏.‏
قال البيهقي رواته ثقات وهو متصل‏.‏ وما أخرجه الطبراني عن عمر قال‏:‏ ‏"‏إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة‏"‏ فذكرها وهو من رواية موسى بن طلحة عن عمر‏.‏ قال أبو زرعة موسى عن عمر مرسل‏.‏ وما أخرجه ابن ماجه والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ ‏"‏إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب‏"‏ زاد ابن ماجه والذرة وفي إسناده محمد بن عبيد الله العزرمي وهو متروك‏.‏ وما أخرج البيهقي من طريق مجاهد قال لم تكن الصدقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في خمسة فذكرها‏.‏ وأخرج أيضًا من طريق الحسن فقال لم يفرض الصدقة النبي صلى الله عليه وسلم إلا في عشرة فذكر الخمسة المذكورة والإبل والبقر والغنم والذهب والفضة‏.‏ وحكى أيضًا عن الشعبي أنه قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن‏:‏ ‏"‏إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب‏"‏‏.‏ قال البيهقي هذه المراسيل طرقها مختلفة وهي يؤكد بعضها بعضًا ومعها حديث أبي موسى، ومعها قول عمر وعلي وعائشة ليس في الخضراوات زكاة انتهى‏.‏ فلا أقل من انتهاض هذه الأحاديث لتخصيص تلك العمومات التي قد دخلها التخصيص بالأوساق والبقر العوامل وغيرهما فيكون الحق ما ذهب إليه الحسن البصري والحسن بن صالح والثوري والشعبي من أن الزكاة لا تجب إلا في البر والشعير والتمر والزبيب لا فيما عدا هذه الأربعة مما أخرجت الأرض وأما زيادة الذرة في حديث عمرو بن شعيب فقد عرفت أن في إسنادها متروكًا ولكنها معتضدة بمرسل مجاهد والحسن‏.‏
وعن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص لكي يحصي الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود ‏.‏
وعن عتاب بن أسيد‏:‏ ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم‏"‏‏.‏
رواه الترمذي وابن ماجه ‏.‏
وعنه أيضًا قال‏:‏ ‏"‏أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل فتؤخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ صدقة النخل تمرًا‏"‏‏.‏ رواه أبو داود والترمذي ‏.‏
وعن سهل بن أبي حثمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا ابن ماجه‏.‏

 

ج / 4 ص -144-       حديث عائشة فيه واسطة بين ابن جريج والزهري ولم يعرف‏.‏ وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني بدون الواسطة المذكورة وابن جريج مدلس فلعله تركها تدليسًا‏.‏ وذكر الدارقطني الاختلاف فيه فقال رواه صالح عن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة وأرسله معمر ومالك وعقيل ولم يذكروا أبا هريرة‏.‏
وحديث عتاب بن أسيد أخرجه أيضًا باللفظ الأول أبو داود وابن حبان وباللفظ الثاني النسائي وابن حبان والدارقطني ومداره على سعيد بن المسيب عن عتاب وقد قال أبو داود لم يسمع منه، وقال ابن قانع لم يدركه‏.‏ وقال المنذري انقطاعه ظاهر لأن مولد سعيد في خلافة عمر ومات عتاب يوم مات أبو بكر وسبقه إلى ذلك ابن عبد البر‏.‏ وقال ابن السكن لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه غير هذا وقد رواه الدارقطني بسند فيه الواقدي فقال عن سعيد بن المسيب عن المسور بن مخرمة عن عتاب بن أسيد‏.‏ وقال أبو حاتم الصحيح عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عتابًا مرسل وهذه رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري‏.‏
وحديث سهل بن أبي حثمة أخرجه أيضًا ابن حبان والحاكم وصححاه وفي إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي عن ابن أبي حثمة وقد قال البزار إنه انفرد به وقال ابن القطان لا يعرف حاله قال الحاكم وله شاهد بإسناد متفق على صحته أن عمر بن الخطاب أمر به‏.‏ ومن شواهده ما رواه ابن عبد البر عن جابر مرفوعًا ‏"‏خففوا في الخرص‏"‏ الحديث وفي إسناده ابن لهيعة‏.‏
ـ والأحاديث المذكورة ـ تدل على مشروعية الخرص في العنب والنخل وقد قال الشافعي في أحد قوليه بوجوبه مستدلا بما في حديث عتاب من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك وذهبت العترة ومالك وروي عن الشافعي إلى أنه جائز فقط وذهبت الهادوية وروي عن الشافعي أيضًا إلى أنه مندوب وقال أبو حنيفة لا يجوز لأنه رجم بالغيب والأحاديث المذكورة ترد عليه‏.‏ وقد قصر جواز الخرص على مورد النص بعض أهل الظاهر فقال لا يجوز إلا في النخل والعنب ووافقه على ذلك شريح وأبو جعفر وابن أبي الفوارس، وقيل يقاس عليه غيره مما يمكن ضبطه بالخرص، واختلف في خرص الزرع فأجازه للمصلحة الإمام يحيى ومنعته الهادوية والشافعية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ودعوا الثلث‏"‏ قال ابن حبان له معنيان أحدهما أن يترك الثلث أو الربع من العشر وثانيهما أن يترك ذلك من نفس الثمرة قبل أن تعشر‏.‏ وقال الشافعي أن يدع ثلث الزكاة أو ربعها ليفرقها هو بنفسه‏.‏ وقيل يدع له ولأهله قدر ما يأكلون ولا يخرص‏.‏ وأخرج أبو نعيم في الصحابة من طريق الصلت بن زييد بن الصلت عن أبيه عن جده ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الخرص فقال أثبت لنا النصف و بق لهم النصف فإنهم يسرقون ولا تصل إليهم‏"‏‏.‏
وعن الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة، قال الزهري تمرين من تمر المدينة‏"‏‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏

 

ج / 4 ص -145-       "‏ وعن أبي أمامة بن سهل‏:‏ في الآية التي قال الله عز وجل‏:‏ ‏{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}‏‏.‏ قال هو الجعرور، ولون حبيق، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ في الصدقة الرذالة‏"‏‏.‏ رواه النسائي ‏.‏
الحديث الأول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح‏.‏ والحديث الثاني في إسناده عبد الجليل بن حبيب اليحصبي ولا بأس به وبقية رجاله رجال الصحيح‏.‏ وقد أخرج نحوه الترمذي وقال حسن صحيح غريب من حديث البراء، قال‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ‏}‏ نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته‏.‏ وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فسقط البسر والتمر فيأكل وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف والقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}‏ قال لو أن أحدكم أهدى إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض وحياء قال فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الجعرور‏"‏ بضم الجيم وسكون العين المهملة وضم الراء وسكون الواو بعدها راء، قال في القاموس هو تمر رديء‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولون الحبيق‏"‏ بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون التحتية بعدها قاف‏.‏ قال في القاموس حبيق كزبير تمر دقل‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الرذالة‏"‏ بضم الراء بعدها ذال معجمة هي ما انتفى جيده كما في القاموس‏.‏
وقوله نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ فيه دليل على أنه لا يجوز للمالك أن يخرج الرديء عن الجيد الذي وجبت فيه الزكاة تصافي التمر قياسًا في سائر الأجناس التي تجب فيها الزكاة وكذلك لا يجوز للمصدق أن يأخذ ذلك‏.‏

باب ما جاء في زكاة العسل
عن أبي سيارة المتعي قال‏:‏ ‏"‏قلت يا رسول الله إن لي نحلا قال فأد العشور قال قلت يا رسول الله احم لي جبلها، قال فحمى لي جبلها‏"‏‏.‏ رواه أحمد وابن ماجه ‏.‏
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ‏"‏عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه أخذ من العسل العشر‏"‏‏.‏
رواه ابن ماجه، وفي رواية له‏:‏ ‏"‏جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له وكان سأله أن يحمي وديانًا يقال له سلبة فحمى له ذلك الوادي فلما ولي عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر يسأله عن ذلك فكتب عمر

 

ج / 4 ص -146-       إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشور نحله فاحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء‏"‏‏.‏ رواه أبو داود والنسائي، ولأبي داود في رواية بنحوه وقال‏:‏ ‏"‏من كل عشر قرب قربة‏"‏‏.‏
حديث أبي سيارة أخرجه أيضًا أبو داود والبيهقي وهو منقطع لأنه من رواية سليمان بن موسى عن أبي سيارة قال البخاري لم يدرك سليمان أحدًا من الصحابة وليس في زكاة العسل شيء يصح‏.‏ قال أبو عمر بن عبد البر لا يقوم بهذا حجة‏.‏ وحديث عمرو بن شعيب قال الدارقطني يروى عن عبد الرحمن بن الحرث وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مسندًا‏.‏ ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرو بن سعيد عن عمر مرسلًا‏.‏ قال الحافظ فهذه علته وعبد الرحمن وابن لهيعة ليسًا من أهل الإتقان لكن تابعهما عمرو بن الحرث أحد الثقات وتابعهما أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عند ابن ماجه وغيره‏.‏
ـ وفي الباب ـ عن ابن عمر عند الترمذي ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في العسل في كل عشرة أزقاق زق‏"‏ وفي إسناده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ وقد خولف‏.‏ وقال النسائي هذا حديث منكر‏.‏ ورواه البيهقي وقال تفرد به صدقة وهو ضعيف وقد تابعه طلحة بن زيد بن موسى بن يسار ذكره المروزي ونقل عن أحمد تضعيفه وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عنه فقال هو عن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل، وعن أبي هريرة عند البيهقي وعبد الرزاق وفي إسناده عبد الله بن محرر بمهملات وهو متروك‏.‏ وعن سعد بن أبي ذئاب عند البيهقي أن النبي صلبى الله عليه وسلم هريرة عند البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على قومه وأنه قال لهم‏:‏ ‏"‏أدوا العشر في العسل‏"‏ وفي إسناده منير بن عبد الله ضعفه البخاري والأزدي وغيرهما‏.‏ قال الشافعي وسعد بن أبي ذئاب يحكي ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره فيه بشيء وأنه شيء رآه هو فتطوع له به قومه‏.‏ قال ابن المنذر ليس في الباب شيء ثابت‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏متعان‏"‏ بضم الميم وسكون المثناة بعدها مهملة وكذا المتعي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏سلبة‏"‏ بفتح المهملة واللام والباء والموحدة هو واد لبني متعان قاله البكري في معجم البلدان‏.‏
وقد استدل بأحاديث الباب على وجوب العشر في العسل أبو حنيفة وأحمد وإسحاق وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم وحكاه في البحر عن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز والهادي والمؤيد بالله وأحد قولي الشافعي‏.‏ وقد حكى البخاري وابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن عمر بن عبد العزيز أنه لا يجب في العسل من الزكاة، وروى عنه عبد الرزاق أيضًا مثل ما روى شيء عنه صاحب البحر ولكنه بإسناد ضعيف كما قال الحافظ في الفتح‏.‏ وذهب الشافعي ومالك والثوري وحكاه ابن عبد البر عن الجمهور إلى عدم وجوب الزكاة في العسل، وحكاه في البحر عن علي عليه السلام وأشار العراقي في شرح الترمذي إلى أن الذي نقله ابن المنذر عن الجمهور أولى من نقل الترمذي‏.‏
ـ واعلم ـ أن حديث ابن سيارة وحديث هلال إن كان غير أبي سيارة لا يدلان

 

ج / 4 ص -147-       على وجوب الزكاة في العسل لأنهما تطوعا بها وحمى لها بدل ما أخذ وعقل عمر العلة فأمر بمثل ذلك ولو كان سبيله سبيل الصدقات لم يخير في ذلك‏.‏ وبقية أحاديث الباب لا تنتهض للاحتجاج بها‏.‏ ويؤيد عدم الوجوب ما تقدم من الأحاديث القاضية بأن الصدقة إنما تجب في أربعة أجناس ويؤيده أيضًا ما رواه الحميدي بإسناده إلى معاذ بن جبل أنه أتى بوقص البقر والعسل فقال معاذ كلاهما لم يأمرني فيه صلى الله عليه وسلم بشيء‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وإلا فإنما هو ذباب غيث‏"‏ أي وإن لم يؤدوا عشور النحل فالعسل مأخوذ من ذباب النحل إلى الغيث لأن النحل يقصد مواضع القطر لما فيها من العشب والخصب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏يأكله من يشاء‏"‏ يعني العسل فالضمير راجع إلى المقدر المحذوف‏.‏
ـ وفيه دليل ـ على أن العسل الذي وجد في الجبال يكون من سبق إليه أحق به‏.‏

باب ما جاء في الركاز والمعدن
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏العجماء جرحها جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس‏"‏‏.‏ رواه الجماعة ‏.‏
وعن ربيعة بن عبد الرحمن عن غير واحد‏:‏ ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية، وهي من ناحية الفرع فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم‏"‏‏.‏ رواه أبو داود ومالك في الموطأ ‏.‏
الحديث الأول له طرق وألفاظ‏.‏ والحديث الثاني أخرجه أيضًا الطبراني والحاكم والبيهقي بدون قوله وهي من ناحية الفرع إلخ‏.‏
قال الشافعي بعد أن روى هذا الحديث ليس هذا مما يثبته أهل الحديث ولم يكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إقطاعه‏.‏ وأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال البيهقي هو كما قال الشافعي‏.‏
وقد روي هذا الحديث عن الدروردي عن ربيعه المذكور موصولا‏.‏ وكذلك أخرجه الحاكم في المستدرك وكذا ذكره ابن عبد البر‏.‏ ورواه أبو سبرة المديني عن مطرف عن مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن بلال موصولًا لكن لم يتابع عليه‏.‏ ورواه أبو أويس عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده وعن ثور بن زيد عن عكرمة عن بان عباس هكذا قال البيهقي وأخرجه من الوجهين الآخرين أبو داود وسيأتي حديث ابن عباس المشار إليه في باب ما جاء في إقطاع المعادن من كتاب إحياء الموات‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏العجماء‏"‏ وسميت البهيمة عجماء لأنها لا تتكلم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏جبار‏"‏ أي هدر وسيأتي الكلام على ذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وفي الركاز الخمس‏"‏ الركاز بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي مأخوذ من الركز بفتح الراء يقال ركزه يركزه إذا دفعه مركوز وهذا متفق عليه‏.‏ قال مالك والشافعي الركاز دفن الجاهلية وقال أبو حنيفة والثوري وغيرهم أن المعدن ركاز واحتجوا لهم بقول العرب أركز الرجل إذا أصاب ركازًا وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن وخالفهم

 

ج / 4 ص -148-       أبواب إخراج الزكاة‏
باب المبادرة إلى إخراجها
عن عقبة بن الحارث قال‏:‏ ‏"‏صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع، ثم دخل البيت فلم يلبث أن خرج، فقلت أو قيل له، فقال كنت خلفت في البيت تبرًا من الصدقة فكرهت أن أبيته فقسمته‏"‏‏.‏ رواه البخاري ‏.‏
وعن عائشة قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته‏"‏‏.‏ رواه الشافعي والبخاري في تاريخه والحميدي وزاد قال‏:‏ ‏"‏يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا يخرجها فيهلك الحرام الحلال‏"‏ وقد احتج به من يرى تعلق الزكاة بالعين ‏.‏

في ذلك الجمهور فقالوا لا يقال للمعدن ركاز، واحتجوا بما وقع في حديث الباب من التفرقة بينهما بالعطف فدل ذلك على المغايرة وخص الشافعي الركاز بالذهب والفضة‏.‏ وقال الجمهور لا يختص واختاره ابن المنذر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏القبلية‏"‏ منسوبة إلى قبل بفتح القاف والباء وهي ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام‏.‏ والفرع موضع بين نخلة والمدينة‏.‏
ـ والحديث ـ الأول يدل على أن زكاة الركاز الخمس على الخلاف السابق في تفسيره‏.‏ قال ابن دقيق العيد ومن قال من الفقهاء إن في الركاز الخمس إما مطلقًا أو في أكثر الصور فهو أقرب إلى الحديث انتهى وظاهره سواء كان الواجد له مسلمًا أو ذميًا وإلى ذلك ذهب الجمهور فيخرج الخمس وعند الشافعي لا يؤخذ منه شيء‏.‏
ـ واتفقوا ـ على أنه لا يشترط فيه الحول بل يجب إخراج الخمس في الحال وإلى ذلك ذهبت العترة قال في الفتح وأغرب ابن العربي في شرح الترمذي فحكى عن الشافعي الاشتراط، ولا يعرف ذلك في شيء من كتبه ولا كتب أصحابه ومصرف هذا الخمس مصرف خمس الفيء عند مالك وأبي حنيفة والجمهور، وعند الشافعي مصرف الزكاة، وعن أحمد روايتان‏.‏ وظاهر الحديث عدم اعتبار النصاب وإلى ذلك ذهبت الحنفية والعترة وقال مالك وأحمد وإسحاق يعتبر لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس فيما دون خمس أواق صدقة‏"‏ وقد تقدم، وأجيب بأن الظاهر من الصدقة الزكاة فلا تتناول الخمس وفيه نظر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة‏"‏ فيه دليل لمن قال أن الواجب في المعادن الزكاة وهي ربع العشر كالشافعي وأحمد وإسحاق ـ ومن أدلتهم ـ أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏في الرقة ربع العشر‏"‏ ويقاس غيرها عليها‏.‏ وذهبت العترة والحنفية والزهري وهو قوله للشافعي إلى أنه يجب فيه الخمس لأنه يصدق عليه اسم الركاز وقد تقدم الخلاف في ذلك‏.

 

ج / 4 ص -149-       قوله‏:‏ ‏"‏تبرًا‏"‏ بكسر المثناة وسكون الموحدة الذهب الذي لم يصف ولم يضرب‏.‏ قال الجوهري لا يقال إلا للذهب وقد قاله بعضهم في الفضة انتهى‏.‏ وأطلقه بعضهم على جميع جواهر الأرض قبل أن تصاغ وتضرب حكاه ابن الأنباري عن الكسائي كذا أشار إليه ابن دريد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أن أبيته‏"‏ أي أتركه يبيت عندي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فقسمته‏"‏ في رواية البخاري ‏"‏فأمرت بقسمته‏"‏ ‏.‏
‏"‏والحديث الأول‏"‏ يدل على مشروعية المبادرة بإخراج الصدقة‏.‏ قال ابن بطال فيه أن الخير ينبغي أن يبادر به فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والموت لا يؤمن والتسويف غير محمود، زاد غيره وهو أخلص للذمة وأنفى للحاجة وأبعد من المطل المذموم وأرضى للرب تعالى وأنحى للذنب ـ والحديث الثاني ـ يدل على أن مجرد مخالطة الصدقة لغيرها من الأموال سبب لإهلاكه وظاهره وإن كان الذي خلطها بغيرها من الأموال عازمًا على إخراجها بعد حين لأن التراخي عن الإخراج مما لا يبعد أن يكون سببًا لهذا العقوبة أعني هلاك المال واحتجاج من احتج به على تعلق الزكاة بالعين صحيح لأنها لو كانت متعلقة بالذمة لم يستقم هذا الحديث لأنها لا تكون في جزء من أجزاء المال فلا يستقيم اختلاطها بغيرها ولا كونها سببًا لإهلاك ما خالطته‏.‏

باب ما جاء في تعجيلها
عن علي عليه السلام‏:‏ ‏"‏أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا النسائي ‏.‏
وعن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة، فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله تعالى، وأما العباس فهي علي ومثلها معها، ثم قال يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه‏"‏‏.‏
رواه أحمد ومسلم وأخرجه البخاري وليس فيه ذكر عمر، ولا ما قيل له في العباس، وقال فيه ‏"‏فهي عليه ومثلها معها‏"‏، قال أبو عبيد أرى والله أعلم أنه أخر عنه الصدقة عامين لحاجة عرضت للعباس وللإمام أن يؤخر على وجه النظر، ثم يأخذه ومن روى ‏"‏فهي علي ومثلها‏"‏ فيقال كان تسلف منه صدقة عامين ذلك العام والذي قبله ‏.‏
حديث علي أخرجه أيضًا الحاكم والدارقطني والبيهقي وفيه اختلاف ذكره الدارقطني‏.‏

 

ج / 4 ص -150-       ورجح إرساله وكذا رجحه أبو داود وقال الشافعي لا أدري أثبت أم لا يعني هذا الحديث‏.‏ ويشهد له ما أخرجه البيهقي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنا كنا احتجنا فأسلفنا العباس صدقة عامين‏"‏ رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا ويعضده أيضًا حديث أبي هريرة المذكور بعده‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ينقم‏"‏ بكسر القاف وفتحها والكسر أفصح وابن جميل هذا قال ابن الأثير لا يعرف اسمه لكن وقع في تعليق القاضي حسين الشافعي وتبعه الروياني أن اسمه عبد الله وذكر الشيخ سراج الدين بن الملقن أن بعضهم سماه حميدًا ووقع في رواية ابن جريح أو جهم بن حذيفة بدل ابن جميل وهو خطأ لإطباق الجميع على ابن جميل‏.‏ وقول الأكثر إنه كان أنصاريًا وأما أبو جهم بن حذيفة فهو قرشي فافترقا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏واعتاده‏"‏ جمع عتاد بفتح العين المهملة بعدها فوقيه وبعد الألف دال مهملة والأعتاد آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها ويجمع أيضًا على أعتدة‏.‏ ومعنى ذلك أنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظنًا منهم أنها للتجارة وأن الزكاة فيها واجبة فقال لهم لا زكاة فيها علي فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن خالدًا منع الزكاة فقال إنكم تظلمونه لأنه حبسها ووقفها في سبيل تعالى قبل الحول عليها فلا زكاة فيها ويحتمل أن يكون المراد لو وجبت عليه زكاة لأعطاها ولم يشح بها لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعًا فكيف يشح بواجب عليه‏.‏ واستنبط بعضهم من هذا وجوب الزكاة زكاة التجارة وبه قال جمهور السلف والخلف خلافًا لداود‏.‏
ـ وفيه الدليل ـ على صحة الوقف وصحة وقف المنقول وبه قالت الأمة بأسرها إلا أبا حنيفة وبعض الكوفيين وقال بعضهم هذه الصدقة التي منعها ابن جميل وخالد والعباس لم تكن زكاة إنما صدقة تطوع حكاه القاضي عياض قال ويؤيده أن عبد الرزاق روى هذا الحديث وذكر في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الصدقة وذكر تمام الحديث قال ابن القصار من المالكية وهذا التأويل أليق بالقصة ولا يظن بالصحابة منع الواجب وعلى هذا فعذر خالد واضح لأنه أخرج ماله في سبيل الله فما بقي له مال يحتمل المواساة بصدقة التطوع ويكون ابن جميل شح بصدقة التطوع فعتب عليه‏.‏ وقال في العباس هي علي ومثلها معها أي أنه لا يمتنع إذا طلبت منه انتهى كلام ابن القصار‏.‏ قال القاضي عياض ولكن ظاهر الأحاديث في الصحيحين أنها في الزكاة لقوله ‏"‏بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة‏"‏ وإنما كان يبعث في الفريضة ورجح هذا النووي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فهي علي ومثلها معها‏"‏ مما يقوي أن المراد أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه تعجل من العباس صدقة عامين ما أخرجه أبو داود الطيالسي من حديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الأول‏.‏ وما أخرجه الطبراني والبزار من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس صدقة عامين‏.‏ وفي إسناده محمد بن ذكوان وهو ضعيف‏.‏ ورواه البزار من حديث موسى بن طلحة عن أبيه نحوه وفي إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك‏.‏ ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وفي إسناده مندل بن علي والعزرمي وهما ضعيفان والصواب أنه مرسل‏.‏ ومما يرجح أن المراد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يتحمل ما عليه لأجل امتناعه

 

ج / 4 ص -151-       لكفاه أن يتحمل مثلها من غير زيادة وأيضًا الحمل على الامتناع فيه سوء ظن بالعباس‏.‏
ـ والحديثان ـ يدلان على أنه يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول ولو لعامين وإلى ذلك ذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وبه قال الهادي والقاسم‏.‏ قال المؤيد بالله وهو أفضل وقال مالك وربيعة وسفيان الثوري وداود وأبو عبيد بن الحرث‏.‏ ومن أهل البيت الناصر أنه لا يجزيء حتى يحول الحول ـ واستدلوا ـ بالأحاديث التي فيها تعليق الوجوب بالحول وقد تقدمت‏.‏ وتسليم ذلك لا يضر من قال بصحة التعجيل لأن الوجوب متعلق بالحول فلا نزاع وإنما النزاع في الإجزاء قبله‏.‏

باب تفرقة الزكاة في بلدها ومراعاة المنصوص عليه لا القيمة وما يقال عند دفعها
عن أبي جحيفة قال‏:‏ ‏"‏قدم علينا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا فكنت غلامًا يتيمًا فأعطاني منها قلوصًا‏"‏‏.‏ رواه الترمذي وقال حديث حسن ‏.‏
وعن عمران بن حصين‏:‏ ‏"‏أنه استعمل على الصدقة، فلما رجع قيل له أين المال‏؟‏ قال وللمال أرسلتني أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناه حيث كنا نضعه‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وابن ماجه ‏.‏
وعن طاوس قال‏:‏ ‏"‏كان في كتاب معاذ من خرج من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته‏"‏‏.‏
رواه الأثرم في سننه ‏.‏
الحديث الأول هو من رواية حفص بن غياث عن أشعث عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه وهؤلاء ثقات إلا أشعث بن سوار ففيه مقال‏.‏ وقد أخرج له مسلم متابعة‏.‏ قال الترمذي بعد ذكر الحديث وفي الباب عن ابن عباس‏.‏ والحديث الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح إلا إبراهيم بن عطاء وهو صدوق‏.‏ والحديث الثالث أخرجه أيضًا سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى طاوس بلفظ ‏"‏من انتقل من مخلاف عشيرته فصدقته وعشره في مخلاف عشيرته‏"‏ ـ وفي الباب ـ عن معاذ عند الشيخين ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قاله له خذها من أغنيائهم وضعها في فقرائهم‏"‏‏.‏
وقد استدل بهذه الأحاديث على مشروعية صرف زكاة كل بلد في فقراء أهله وكراهية صرفها في غيرهم‏.‏ وقد روي عن مالك والشافعي والثوري أنه لا يجوز صرفها في غير فقراء البلد‏.‏ وقال غيرهم إنه يجوز مع كراهة لما علم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستدعي الصدقات من الأعراب إلي المدينة ويصرفها في فقراء المهاجرين والأنصار كما

 

ج / 4 ص -152-       أخرج النسائي من حديث عبد الله بن هلال الثقفي قال ‏"‏جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كدت أن أقتل بعدك في عناق أو شاة من الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم لولا أنها تعطى فقراء المهاجرين ما أخذتها‏"‏‏.‏ ولما أخرجه البيهقي وعلقه البخاري عن معاذ أنه قال لأهل اليمن ائتوني بكل خميس ولبيس آخذه منكم مكان الصدقة فإنه أرفق بكم وأنفع للمهاجرين والأنصار بالمدينة وفيه انقطاع وقال الإسماعيلي إنه مرسل فلا حجة فيه لا سيما مع معارضته لحديثه المتفق عليه الذي تقدم وقد قال فيه بعض الرواة من الجزية بدل قوله الصدقة أو يحمل على أنه بعد كفاية من في اليمن وإلا فما كان معاذ ليخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏مخلاف‏"‏ إلخ فيه دليل على أن من انتقل من بلد إلى بلد كان زكاة ماله لأهل البلد الذي انتقل منه مهما أمكن إيصال ذلك إليهم‏.‏
وعن معاذ بن جبل‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال‏:‏ ‏"‏خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وابن ماجه‏.‏ والجبرانات المقدرة في حديث أبي بكر تدل على أن القيمة لا تشرع وإلا كانت تلك الجبرانات عبثًا‏.‏
الحديث صححه الحاكم على شرطهما وفي إسناده عطاء عن معاذ ولم يسمع منه لأنه وجد بعد موته أو في سنة موته بسنة‏.‏ وقال البزار لا نعلم أن عطاء سمع من معاذ‏.‏
وقد استدل بهذا الحديث من قال إنها تجب الزكاة من العين ولا يعدل عنها إلى القيمة إلا عند عدمها وعدم الجنس وبذلك قال الهادي والقاسم والشافعي والإمام يحيى‏.‏ وقال أبو حنيفة والمؤيد بالله إنها تجزيء مطلقًا وبه قال الناصر والمنصور بالله وأبو العباس وزيد بن علي، واستدلوا بقول معاذ ائتوني بكل خميس لبيس فإن الخميس واللبيس ليس إلا قيمة عن الأعيان التي تجب فيها الزكاة وهو مع كونه فعل صحابي لا حجة فيه فيه انقطاع وإرسال كما قدمنا ذلك في الشرح للحديث الذي قبل هذا فالحق أن الزكاة واجبة من العين لا يعدل عنها إلى القيمة إلا لعذر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏والجبرانات‏"‏ بضم الجيم جمع جبران وهو ما يجبر به الشيء وذلك نحو قوله في حديث أبي بكر السابق ويجعل مها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا فإن ذلك ونحوه يدل على أن الزكاة واجبة في العين ولو كانت القيمة هي الواجبة لكان ذكر ذلك عبثًا لأنها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فتقدير الجبران بمقدار معلوم يناسب تعلق الوجوب بالقيمة وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من هذا‏.‏
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا‏"‏‏.‏ رواه ابن ماجه ‏.‏

 

ج / 4 ص -153-       وعن عبد الله بن أبي أوفى قال‏:‏ ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال‏:‏ اللهم صل عليهم، فأتاه أبي أوفى بصدقته، فقال‏:‏ اللهم صل على آل أبي أوفى‏"‏‏.‏ متفق عليه ‏.‏
الحديث الأول إسناده في سنن ابن ماجه هكذا حدثنا سويد بن سعيد حدثنا الوليد بن مسلم عن البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة فذكره‏.‏ والبختري بن عبيد الطابخي متروك‏.‏ وسويد بن سعيد فيه مقال‏.‏ ـ وفي الباب ـ عن وائل بن حُجر عند النسائي قال ‏"‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة‏:‏ اللهم بارك فيه وفي إبله‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا‏"‏ كأنه جعل هذا القول نفس الثواب لما كان له دخل في زيادة الثواب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏اللهم صل عليهم‏"‏ في رواية ‏"‏على آل فلان‏"‏‏.‏ وفي أخرى ‏"‏على فلان‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏على آل أبي أوفى‏"‏ يريد أبا أوفى نفسه لأن الآل يطلق على ذات الشيء كقوله في قصة أبي موسى ‏"‏لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود‏"‏ وقيل لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر‏.‏ واسم أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحرث الأسلمي شهد هو وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة‏.‏
واستدل بهذا الحديث على جواز الصلاة على غير الأنبياء وكرهه مالك والجهور‏.‏ قال ابن التين وهذا الحديث يعكر عليه وقد قال جماعة من العلماء يدعوا آخذ الصدقة للمتصدق بهذا الدعاء لهذا الحديث‏.‏ وأجيب عنه بأن أصل الصلاة الدعاء إلا أنه يختلف بحسب المدعو له فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته دعاء لهم بالمغفرة وصلاة أمته له بزيادة القربة والزلفى، ولذلك كانت لا تليق بغيره، وفي دليل على أنه يستحب الدعاء عند أخذ الزكاة لمعطيها‏.‏ وأوجبه بعض أهل الظاهر وحكاه الحناطي وجهًا لبعض الشافعية، وأجيب بأنه لو كان واجبًا لعلمه النبي صلى الله عليه وسلم السعاة‏.‏ ولأن سائر ما يأخذه الإمام من الكفارات والديون وغيرها لا يجب عليه فيه الدعاء فكذلك الزكاة‏.‏ وأما الآية فيحتمل أن يكون الوجوب خاصًا به بكون صلاته صلى الله عليه وسلم سكنًا لهم بخلاف غيره‏.‏

باب من دفع صدقته إلى من ظن من أهلها فبان غنيًا
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قال رجل لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق، فقال اللهم لك الحمد على سارق لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية، فقال اللهم لك الحمد على زانية فقال لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فقال اللهم لك الحمد على زانية، وعلى سارق وعلى غني فأتي فقيل له أما صدقتك

 

ج / 4 ص -154-       فقد قبلت أما الزانية فلعلها تستعف به من زناها، ولعل السارق أن يستعف به عن سرقته، ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما آتاه الله عز وجل‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏قال رجل‏"‏ وقع عند أحمد من طريق ابن لهيعة عن الأعرج في هذا الحديث أنه كان من بني إسرائيل‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لأتصدقن‏"‏ زاد في رواية متفق عليها ‏"‏الليلة‏"‏ وهذا اللفظ من باب الالتزام كالنذر مثلًا والقسم فيه مقدر، كأنه قال والله لأتصدقن‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏في يد سارق‏"‏ أي وهو لا يعلم أنه سارق وكذلك على زانية وكذلك على غني‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏تصدق‏"‏ بضم أوله على البناء للمجهول‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لك الحمد‏"‏ أي لا لي لأن صدقتي وقعت في يد من لا يستحقها فلك الحمد حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي‏.‏ قال الطيبي لما عزم أن يتصدق على مستحق فوضعها بيد سارق حمد الله على أنه لم يقد له أن يتصدق على من هو أسوأ أو أجرى الحمد التسبيح في استعماله عند مشاهدة ما يتعجب منه تعظيمًا لله تعالى فلما تعجبوا من فعله تعجب هو أيضًا فقال اللهم لك الحمد على سارق أي تصدقت عليه فهو متعلق بمحذوف‏.‏ قال الحافظ ولا يخفى بعد هذا الوجه‏.‏ وأما الذي قبله فأبعد منه والذي يظهر الأول وأنه سلم وفوض ورضي بقضاء الله سبحانه على تلك الحال لأنه المحمود على جميع الأحوال، لا يحمد على المكروه سواه‏.‏ وقد ثبت ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما لا يعجبه قال‏:‏ الحمد لله على كل حال‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأتى فقيل له‏"‏ في رواية للطبراني ‏"‏فساءه ذلك فأتى في منامه‏"‏ ‏.‏ وكذلك أخرجه أبو نعيم والإسماعيلي وفيه تعيين أحد الاحتمالات التي ذكرها ابن التين وغيره‏.‏ قال الكرماني قوله أتى أي أرى في المنام أو سمع هاتفًا ملكًا أو غيره أو أخبره نبي أو أفتاه عالم‏.‏ وقال غيره أو أتاه ملك فكلمه فقد كانت الملائكة تكلم بعضهم في بعض الأمور، وقد ظهر سلف أن الواقع هو الأول دون غيره‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أما صدقتك فقد قبلت‏"‏ في رواية للطبراني ‏"‏إن الله قد قبل صدقتك‏"‏‏.‏
في الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير ولهذا تعجبوا‏.‏ وفيه أن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته ولو لم تقع الموقع‏.‏ واختلف الفقهاء في الإجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض، ولا دلالة في الحديث على الإجزاء إذا كان ذلك في زكاة الفرض، ولا دلالة في الحديث على الإجزاء ولا المنع ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث بلفظ الاستفهام فقال باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم ولم يجزم بالحكم‏.‏ قال في الصحيح‏.‏ فإن قيل إن الخبر غنما تضمن قصة خاصة وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية فمن أين يقع عميم الحكم‏.‏ فالجواب أن التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم فيقتضي ارتباط القبول لهذه الأسباب انتهى‏.‏

 

ج / 4 ص -155-       باب براءة رب المال بالدفع إلى السلطان مع العدل والجور وأنه إلا ظلم بزيادة لم يحتسب به على شيء
عن أنس ‏"‏أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله ورسوله، قال نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله فلك أجرها وإثمها على من بدلها‏"‏‏.‏ مختصر لأحمد‏.‏ وقد احتج بعمومه من يرى المعجلة إلى الإمام إذا هلكت عنده من ضمان الفقراء دون الملاك‏.‏
وعن ابن مسعود ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا يا رسول الله فما تأمرنا‏؟‏ قال‏:‏ تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
وعن وائل بن حجر قال‏:‏ ‏"‏سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله، فقال أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا ويسألونا حقهم، فقال‏:‏ اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم‏"‏‏.‏ رواه مسلم والترمذي وصححه‏.‏
الحديث الأول أخرجه أيضًا الحرث بن وهب وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه ـ وفي الباب ـ عن جابر بن عتيك مرفوعًا عند أبي داود بلفظ ‏"‏سيأتيكم ركب مبغضون فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها وأرضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم‏"‏ وعن سعد بن أبي وقاص عند الطبراني في الأوسط مرفوعًا ‏"‏ادفعوا إليهم ما صلوا الخمس‏"‏‏.‏ وعن ابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وأبي سعيد عند سعيد بن منصور وابن أبي شيبة أن رجلًا سألهم عن الدفع إلى السلطان فقالوا ادفعها إلى السلطان وفي رواية أنه قال لهم هذا السلطان يفعل ما ترون فأدفع إليه زكاتي‏؟‏ قالوا نعم، ورواه البيهقي عنهم وعن غيرهم أيضًا وروى ابن أبي شيبة من طريق قزعة، قال قلت لابن عمر إن لي مالًا فإلى من أدفع زكاته قال ادفعها إلى هؤلاء القوم يعني الأمراء قلت إذا يتخذون بها ثيابًا وطيبًا قال وإن، وفي رواية أنه قال ادفعوا صدقة أموالكم إلى من ولاه الله أمركم فمن بر فلنفسه ومن أثم فعليها‏.‏
ـ وفي الباب ـ أيضًا عند البيهقي عن أبي بكر الصديق والمغيرة بن شعبة وعائشة‏.‏ وأخرج البيهقي أيضًا عن ابن عمر بإسناد صحيح أنه قال‏:‏ ادفعوا إليهم وإن شربوا الخمور‏.‏ وأخرج أيضًا من حديث أبي هريرة إذا أتاك المصدق فأعطه صدقتك فإن اعتدى عليك، فوله ظهرك ولا تلعنه وقل اللهم إني أحتسب عندك ما أخذ مني‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أثرة‏"‏ بفتح الهمزة والثاء المثلثة اسم لاستئثار الرجل على أصحابه‏.‏
ـ والأحاديث ـ المذكورة في الباب استدل بها الجمهور على جواز دفع الزكاة إلى سلاطين الجور وإجزائها‏.‏ وحكى المهدي في البحر عن العترة وأحد قولي الشافعي أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الظلمة ولا يجزئ، واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}‏ ويجاب بأن هذه الآية على تسليم صحة الاستدلال بها على محل النزاع عمومها مخصص بالأحاديث المذكورة في الباب‏.‏ وقد زعم بعض المتأخرين أن الأدلة المذكورة لا تدل على مطلوب المجوزين لأنها في المصدق والنزاع

 

ج / 4 ص -156-       في الوالي وهو غفلة عن حديث ابن مسعود وحديث وائل بن حجر المذكورين في الباب‏.‏ وقد حكي في التقرير عن أحمد بن عيسى والباقر مثل قول الجمهور وكذلك عن المنصور وأبي مضر وقد استدل للمانعين أيضًا بما رواه ابن أبي شيبة عن خيثمة قال سألت ابن عمر عن الزكاة فقال‏:‏ ادفعها إليهم ثم سألته بعد ذلك فقال لا تدفعها إليهم فإنهم قد أضاعوا الصلاة وهذا مع كونه قول صحابي ولا حجة فيه ضعيف الإسناد لأنه من رواية جابر الجعفي‏.‏ ومن جملة ما احتج به صاحب البحر للقائلين بالجواز بأنها لم تزل تؤخذ كذلك ولا تعاد، وبأن عليًا لم يثن على من أعطى الخوارج، وأجاب عن الأول بأنه ليس بإجماع وعن الثاني بأن ذلك كان لعذر أو مصلحة إذ لا تصريح بالإجزاء، ولا يخفى ضعف هذا الجواب، والحق ما ذهب إليه الجمهور من الجواز والإجزاء‏.‏
4وعن بشير بن الخصاصية قال‏:‏ ‏"‏قلنا يا رسول الله إن قومًا من أصحاب الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا‏؟‏ فقال لا‏"‏‏.‏ رواه أبو داود ‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا عبد الرزاق وسكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده ديسم السدوسي ذكره ابن حبان في الثقات‏.‏ وقال في التقريب مقبول ـ وفي الباب ـ عن جرير بن عبد اله وأبي هريرة عند البيهقي‏.‏
ـ والحديث ـ استدل به على أنه لا يجوز كتم شيء عن المصدقين عن وإن ظلموا وتعدوا وقد عورض ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم من سئل فوق ذلك فلا يعطه كما تقدم في حديث أنس الطويل الذي رواه عن كتاب أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وتقدم الجمع بين هذا الحديث وبين ذلك هنالك‏.‏ قال ابن رسلان لعل المراد بالمنع من الكتم أن ما أخذه الساعي ظلمًا يكون في ذمته لرب المال فإن قدر المالك على استرجاعه منه استرجعه وإلا استقر في ما أخذه الساعي ظلمًا يكون في ذمته لرب المال فإن قدر المالك على استرجاعه منه استرجعه وإلا استقر في ذمته‏.‏

باب أمر السعي أن يعد الماشية حيث ترد الماء ولا يكلفهم حشدها إليه
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم‏"‏‏.‏
رواه أحمد‏.‏ وفي رواية لأحمد وأبي داود‏:‏ ‏"‏لا جلب ولا جنب، ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في ديارهم‏"‏‏.‏
الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص وفي إسناده محمد بن إسحاق وقد عنعن ـ وفي الباب ـ عن عمران بن حصين عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وابن حبان وصححه بمثل حديث الباب‏.‏ وعن أنس عند أحمد والبزار وابن حبان عبد الرزاق‏.‏ وأخرجه النسائي عنه من وجه آخر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا جلب‏"‏ بفتح الجيم واللام ‏"‏ولا جنب‏"‏ بفتح الجيم والنون قال ابن إسحاق معنى لا جلب أن تصدق الماشية في موضعها ولا تجلب إلى المصدق ومعنى لا أن يكون المصدق بأقصى مواضع أصحاب الصدقة فتجنب إليه فنهوا عن ذلك‏.‏ وفسر مالك الجلب

 

ج / 4 ص -157-       بأن تجلب الفرس في السباق فيحرك وراءه الشيء يستحث به فيسبق، والجنب أن يجننب مع الفرس الذي سابق به فرسًا آخر حتى إذا دنا تحول الراكب عن الفرس المجنوب فسبق‏.‏ قال ابن الأثير له تفسيران فذكرهما وتبعه المنذري في حاشيته‏.‏
ـ والحديث ـيدل على أن المصدق هو الذي يأتي للصدقات ويأخذها على مياه أهلها لأن ذلك أسهل لهم‏.‏

باب سمة الإمام المواشي إذا تنوعت عنده
عن أنس قال‏:‏ ‏"‏غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة‏"‏‏.‏ أخرجاه‏.‏ ولأحمد وابن ماجه‏:‏ ‏"‏دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسم غنما في آذانها ‏"‏‏.‏
وعن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال لعمر‏:‏ ‏"‏إن في الظهر ناقة عمياء فقال أمن نعم الصدقة، أو من نعم الجزية‏؟‏ قال أسلم من نعم الجزية، وقال إن عليها ميسم الجزية‏"‏‏.‏ رواه الشافعي‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏الميسم‏"‏ بكسر الميم وسكون الياء التحتية وفتح السين المهملة وأصله موسم لأن فاءه واو لكنها لما سكنت وكسر ما قبلها قلبت ياء، وهي الحديدة التي يوسم بها، أي يعلم بها، وهو نظير الخاتم‏.‏
ـ وفيه دليل ـعلى جواز وسم إبل الصدقة ويلحق بها غيرها من الأنعام‏.‏ والحكمة في ذلك تمييزها وليردها من أخذها ومن التقطها وليعرفها صاحبها فلا يشتريها إذا تصدق بها مثلًا لئلا يعود في صدقته قال في الفتح ولم أقف على تصريح بما كان مكتوبًا على ميسم النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ابن الصباغ من الشافعية نقل إجماع الصحابة على أنه يكتب في ميسم الزكاة زكاة أو صدقة‏.‏ وقد كره بعض الحنفية الوسم بالميسم لدخوله في عموم النهي عن المثلة‏.‏ وحديث الباب يخصص هذا العموم فهو حجة عليه‏.‏
ـ وفي الحديث ـاعتناء الإمام بأموال الصدقة وتوليها بنفسه وجواز تأخير القسمة لأنها لو عجلت لستغني عن الوسم‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏إن عليها ميسم الجزية ‏"‏ إلخ فيه دليل على أن وسم إبل الجزية كان يفعل في أيام الصحابة كما كان يوسم إبل الصدقة‏.‏

أبواب الأصناف الثمانية‏‏
باب ما جاء في الفقير والمسكين والمسألة والغني
عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان‏.‏ إنما المسكين الذي يتعفف، اقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏{ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ‏}‏‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏ليس المسكين الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان،

 

ج / 4 ص -158-       والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس‏"‏‏.‏ متفق عليهما‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏ولا اللقمة والقمتان‏"‏ في رواية للبخاري ‏"‏الأكلة والأكلتان‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏يغنيه‏"‏ هذه صفة زائدة على الغنى المنهي إذا لا يلزم من حصول اليسار للمرء أن يغني به بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر‏.‏ وكأن المعنى نفي اليسار المقيد بأنه يغنيه مع وجود أصل اليسار‏.‏
ـ وفي الحديث ـدليل على أن المسكين هو الجامع بين عدم الغنى وعدم تفطن الناس له لما يظن به لأجل تعففه وتظهره بصورة الغنى من عدم الحاجة ومع هذا هو المستعفف عن السؤال‏.‏
ـ وقد استدل ـبه من يقول أن الفقير أسوأ حالا من المسكين وأن المسكين الذي له شيء لكنه لا يكفيه والفقير الذي لا شيء له ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ‏}‏ فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة يعملون فيها وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور كما قال في الفتح وذهب أبو حنفية والعترة إلى أن المسكين دون الفقير، واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}‏ قالوا لأن المراد أن يلصق التراب بالعرى‏.‏ وقال ابن القاسم وأصحاب مالك إنهما سواء وروي عن أبي يوسف ورجحه الجلال قال لأن المسكنة لازمة للفقر إذ ليس معناها الذل والهوان، فإنه ربما كان بغنى النفس أعز من الملوك الأكابر، بل معناها العجز عن إدراك المطالب الدنيوية، والعاجز ساكن عن الانتهاض إلى مطالبه اهـ‏.‏ وقيل الفقير الذي يسأل والمسكين الذي لا يسأل، حكاه ابن بطال وظاهره أيضًا أن المسكين من اتصف بالتعفف وعدم الإلحاف في السؤال، لكن قال ابن بطال بمعناه المسكين الكامل وليس المراد نفي أصل المسكنة، بل هو كقوله‏:‏ ‏"‏أتدرون من المفلس‏"‏ الحديث‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{لَيْسَ الْبِرَّ ‏}‏ الآية وكذا قرره القرطبي وغير واحد ـ ومن جملة ـ حجج القول الأول قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللهم أحيني مسكينًا‏"‏ مع تعوذه من الفقر‏.‏ والذي ينبغي أن يعول عليه أن يقال المسكين من اجتمعت له الأوصاف المذكورة في الحديث والفقير من كان ضد الغنى كما في الصحاح والقاموس وغيرهما من كتب اللغة، وسيأتي تحقيق الغنى فيقال لمن عدم الغنى فقير ولمن عدمه مع التعفف عن السؤال وعدم تفطن الناس له مسكين‏.‏ وقيل أن الفقير من يجد القوت والمسكين من لا شيء له‏.‏ وقيل الفقير المحتاج والمسكين من أذله الفقر وحكى هذين صاحب القاموس‏.‏
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏المسألة لا تحل إلا لثلاثة لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود‏.‏ وفيه تنبيه على أن الغارم لا يأخذ مع الغنى‏.‏
وعن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تحل

 

ج / 4 ص -159-       الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا ابن ماجه والنسائي، لكنه لهما من حديث أبي هريرة ولأحمد الحديثان‏.‏
وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار‏:‏ ‏"‏أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر ورآهما جلدين فقال‏:‏ إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وقال أحمد هذا أجودها إسنادًا‏.‏
حديث أنس أخرجه أيضًا ابن ماجه والترمذي وحسنه وقال لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان اهـ‏.‏ والأخضر بن عجلان قال يحيى بن معين صالح وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه‏.‏ وحديث عبد الله بن عمرو حسنه الترمذي وذكر أن شعبة لم يرفعه وفي إسناده ريحان بن يزيد وثقه يحيى بن معين وقال أبو حاتم الرازي شيخ مجهول وقال بعضهم لم يصح إسناد هذا الحديث وإنما هو موقوف على عبد الله بن عمرو‏.‏ وقال أبو داود الأحاديث الأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ بعضها ‏"‏لذى مرة سوي‏"‏، وبعضها ‏"‏لذي مرة قوي‏"‏، وحديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أخرجه أيضًا الدارقطني وروي عن أحمد أنه قال ما أجوده من حديث وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه المصنف أخرجه أيضًا ابن حبان والحاكم‏.‏
ـ وفي الباب ـ عن طلحة عند الدارقطني وعن ابن عمر عند ابن عدي وعن حبشي بن جنادة عند الترمذي‏.‏ وعن جابر عند الدارقطني‏.‏ وعن أبي زميل عن رجل من بني هلال عند أحمد‏.‏ وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عند الطبراني‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏مدقع‏"‏ بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر القاف وهو الفقر الشديد المصلق صاحب بالدقعاء وهي الأرض التي لا نبات بها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو لذي غرم مفظع‏"‏ الغرم بضم الغين المعجمة وسكون الراء هو ما يلزم أداؤه تكلفًا لا في مقابلة عوض والمفظع بضم الميم وسكون الفاء وكسر الظاء المعجمة وبالعين المهملة وهو الشديد الشنيع الذي جاوز الحد‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو لذي دم موجع‏"‏ هو الذي يتحمل دية عن قريبه أو حميمه أو نسيبه القاتل يدفعها إلى أولياء المقتول، وإن لم يدفعها إلى أولياء المقتول، وإن لم يدفعها قتل قريبه أو حميمه الذي يتوجع لقتله وإراقة دمه‏.‏
ـ والحديث ـ يدل على جواز المسألة لهؤلاء الثلاثة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا تحل الصدقة لغني‏"‏ قد اختلفت المذاهب في المقدار الذي يصير به الرجل غنيًا فدهبت الهادوية والحنفية إلى أن الغني من ملك النصاب فيحرم عليه أخذ الزكاة واحتجوا بما تقدم في حديث معاذ من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم‏"‏ قالوا فوصف من تؤخذ منه الزكاة بالغنى وقد قال‏:‏ ‏"‏لا تحل الصدقة لغني‏"‏ وقال بعضهم هو من وجد ما يغديه ويعيشه حكاه الخطابي، واستدل بما أخرجه أبو داود وابن حبان وصححه عن سهل بن الحنظلية قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار قالوا يا رسول الله وما يغنيه قال قدر ما يغديه ويعشيه‏"‏ وسيأتي وقال الثوري وابن المبارك وأحمد

 

ج / 4 ص -160-       وإسحاق وجماعة من أهل العلم هو من كان عنده خمسون درهمًا أو قيمتها‏.‏ واستدلوا بحديث ابن مسعود عند الترمذي وغيره مرفوعًا "من يسأل الناس وله مال يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش قيل يا رسول الله وما يغنيه قال خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب" وسيأتي، وقال الشافعي وجماعة إذا كان عنده خمسون درهمًا أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة‏.‏ وروي عن الشافعي أن الرجل قد يكون غنيًا بالدرهم مع الكسب ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله‏.‏ وقال أبو عبيد بن سلام هو من وجد أربعين درهمًا واستدل بحديث أبي سعيد الآتي بلفظ‏:‏ ‏"‏وله قيمة أوقية‏"‏ لأن الأربعين الدرهم قيمة الأوقية وقيل هو من لا يكفيه غلة أرضه للسنة حكاه في البحر عن أبي طالب والمرتضى‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا لذي مرة سوي‏"‏ المرة بكسر الميم وتشديد الراء قال الجوهري المرة القوة وشدة العقل ورجل مرير أي قوي ذو مرة‏.‏ وقال غيره المرة القوة على الكسب والعمل وإطلاق المرة هنا وهي القوة مقيد بالحديث الذي بعده أعني قوله ولا لقوي مكتسب، فيؤخذ من الحديثين أن مجرد القوة لا يقتضي عدم الاستحقاق إلا إذا قرن بها الكسب‏.‏ وقوله سوى أي مستوى الخلق قاله الجوهري والمراد استواء الأعضاء وسلامتها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏جلدين‏"‏ بإسكان اللام أي قويين شديدين‏.‏ قال الجوهري الجلد بفتح اللام هو الصلابة والجلادة تقول منه جلد الرجل بالضم فهو جلد يعني بإسكان اللام وجليد بين الجلد والجلادة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏مكتسب‏"‏ أي يكتسب قدر كفايته‏.‏
ـ وفيه دليل ـعلى أنه يستحب للإمام أو المالك الوعظ والتحذير وتعريف الناس بأن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي قوة على الكسب كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون ذلك برفق‏.‏
وعن الحسين بن علي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏للسائل حق، وإن جاء على فرس‏"‏‏.‏
رواه أحمد وأبو داود، وهو حجة في قبول قول السائل من غير تحليف وإحسان الظن به‏.‏
وعن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود والنسائي‏.‏ وعن سهل بن الحنظلية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم‏.‏ قالوا يا رسول الله وما يغنيه‏؟‏ قال‏:‏ ما يغديه أو يعشيه‏"‏‏.‏ رواه أحمد واحتج به وأبو داود وقال‏:‏ ‏"‏يغذيه ويعشيه‏"‏‏.‏ وعن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من سأل وله

 

ج / 4 ص -161-       ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشًا أو كدوشًا في وجهه، قالوا يا رسول الله وما غناه‏؟‏ قال خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب‏"‏‏.‏ رواه الخمسة وزاد أبو داود وابن ماجه والترمذي، فقال رجل لسفيان إن شعبة لا يحدث عن حكيم بن جبير فقال سفيان حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد‏.‏
أما حديث الحسن بن علي فالذي وقفنا عليه في النسخ الصحيحة من هذا الكتاب أن الراوي للحديث الحسن بن علي‏.‏ وفي سنن أبي داود وغيرها أن الراوي للحديث الحسين بن علي‏.‏ وهذا الحديث في إسناده يعلى بن يحيى سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال مجهول‏.‏ وقال أبو سعيد بن عثمان بن السكن قد روي من وجوه صحاح حضور الحسين بن علي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعبه بين يديه وتقبيله إياه فأما الرواية التي يرويها عن النبي صلى الله عليه وسلم فكلها مراسيل‏.‏ وقال أبو القاسم البغوي في معجمه نحوًا من ذلك‏.‏ وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى بن الحذاء سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه ولم يكن بينه وبين أخيه الحسن بين علي إلا طهر واحد‏.‏ وحديث أبي سعيد سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات وعبد الرحمن بن محمد أبي الرجال المذكور في إسناده قد وثقه أحمد والدارقطني وابن معين وذكره ابن حبان في الثقات وقال ربما أخطأ‏.‏ وحديث سهل أخرجه ابن حبان وصححه‏.‏ وحديث ابن مسعود حسنه الترمذي وقال وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وإن جاء على فرس‏"‏ فيه الأمر بحسن الظن بالمسلم الذي امتهن نفسه بذل السؤال فلا يقابله بسوء الظن به واحتقاره بل يكرمه بإظهار السرور له ويقدر أن الفرس التي تحته عارية أو أنه ممن يجوز له أخذ الزكاة مع الغنى كمن تحمل حمالة أو غرم غرمًا لإصلاح ذات البين‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وله قيمة أوقية‏"‏ قال أبو داود زاد هشام في روايته ‏"‏وكانت الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين درهمًا‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فقد ألحف‏"‏ قال الواحدي الإلحاف في اللغة هو الإلحاح في المسألة‏.‏ قال أبو الأسود الدؤلي ليس للسائل الملحف مثل الرد‏.‏ قال الزجاج معنى ألحف شمل بالمسألة والإلحاف في المسألة هو أن يشتمل على وجوه الطلب بالمسألة، كاشتمال اللحاف في التغطية‏.‏ وقال غيره معنى الإلحاف في المسألة مأخوذ من قولهم ألحف الرجل إذا مشي في لحف الجبل وهو أصلح كأنه استعمل الخشونة في الطلب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإنما يستكثر‏"‏ أي بطلب الكثرة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ما يغديه‏"‏ بفتح الغين المعجمة وتشديد الدال المهملة أي من الطعام بحيث يشبعه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ويعشيه‏"‏ بفتح العين أيضًا‏.‏ فعلى رواية التخيير يكون المعنى أن الإنسان إذا حصل له أكلة في النهار غداء وعشاء كفته واستغنى بها‏.‏ وعلى رواية الجمع يكون المعنى أنه إذا حصل له في يومه أكلتان كفتاه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏خدوشًا‏"‏ بضم الخاء المعجمة جمع خدش وهو خمش الوجه بظفر أو

 

ج / 4 ص -162-       حديدة أو نحوهما‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو حسابها من الذهب‏"‏ هذه رواية أحمد ورواية أبي داود ‏"‏أو قيمتها من الذهب‏"‏‏.‏
ـ وهذه الأحاديث ـ الثلاثة قد استدل بكل واحد منها طائفة من المختلفين في حد الغنى وقد تقدم بيان ذلك ويجمع بينها بأن القدر الذي يحرم السؤال عنده هو أكثرها وهي الخمسون عملًا بالزيادة‏.‏
وعن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانًا أو في أمر لا بد منه‏"‏‏.‏ رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه‏.‏
وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق منه، ويستغني به عن الناس، خير له من أن يسأل رجلًا أعطاه أو منعه‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.
‏ وعنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم وابن ماجه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كد‏"‏ هذا لفظ الترمذي وابن حبان في صحيحه ولفظ أبي داود ‏"‏كدوح‏"‏ وهي آثار الخموش‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا أن يسأل الرجل سلطانًا‏"‏ فيه دليل على جواز سؤال السلطان من الزكاة أو الخمس أو بيت المال أو نحو ذلك فيخص به عموم أدلة تحريم السؤال‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو في أمر لا بد منه‏"‏ فيه دليل على جواز المسألة عند الضرورة والحاجة التي لا بد عندها من السؤال نسأل الله السلامة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وعن أبي هريرة‏"‏ إلخ فيه الحث على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك ولوا قبح المسألة في نظر الشرع لم يفضل ذلك عليها وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط ولما يدخل على المسؤول من الضيق في ماله إن أعطى كل سائل‏.‏ وأما قوله خير له فليست بمعنى أفعل التفضيل إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام‏.‏ ويحتمل أن يكون المراد بالخير فيه بحسب اعتقاد السائل وتسمية الذي يعطاه خيرًا وهو في الحقيقة شر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏تكثرًا‏"‏ فيه دليل على أن سؤال التكثر محرم وهو السؤال لقصد الجمع من غير حاجة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فإنما يسأل جمرًا‏"‏ إلخ قال القاضي عياض معناه أنه يعاقب بالنار قال ويحتمل أن يكون على ظاهره وإن الذي يأخذه يصير جمرًا يكوى به كما ثبت في مانع الزكاة‏.‏
11- " وعن خالد بن عدى الجهني قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: من بلغه معروف عن أخيه عن غير مسألة ولا إشراف نفس

 

ج / 4 ص -163-       فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه" . رواه أحمد
12- وعن ابن عمر قال: سمعت عمر يقول: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر مني فقال "خذ إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سا ئل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك" . متفق عليه
حديث خالد بن عدي أخرجه أيضًا أبو يعلى والطبراني في الكبير قال في مجمع الزوائد ورجال أحمد رجال الصحاح‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ولا إشراف نفس‏"‏ الإشراف بالمعجمة التعرض للشيء والحرص عليه من قولهم أشرف على كذا إذا تطاول له وقيل للمكان المرتفع مشرف لذلك‏.‏ قال أبو داود سألت أحمد عن إشراف النفس فقال بالقلب وقال يعقوب بن محمد سألت أحمد عنه فقال هو أن يقول مع نفسه يبعث إلي فلان بكذا‏.‏ وقال الأثرم بضيق عليه أن يرده إذا كان كذلك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏يعطيني"‏ سيأتي ما يدل على أن عطية النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بسبب العمالة كما في حديث ابن السعدي ولهذا قال الطحاوي ليس معنى هذا الحديث في الصدقات وإنما هو في الأموال وليست هي من جهة الفقر‏.‏ ولكن شيء من الحقوق فلما قال عمر أعطه من هو أفقر إليه مني لم يرض بذلك لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، قال ويؤيده قوله في رواية شعيب خذه فتموله فدل على أنه ليس من الصدقات‏.‏
ـ واختلف العلماء ـ فيمن جاءه مال هل يجب قبوله أم يندب‏؟‏ على ثلاثة مذاهب حكاها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بعد إجماعهم على أنه مندوب‏.‏ قال النووي الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه مستحب في غير عطية السلطان، وأما عطية السلطان، يعني الجائر فحرمها قوم وأباحها آخرون وكرهها قوم، والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت وكذا إن أعطى من لا يستحق وإن لم يغلب الحرام فمباح إن لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ‏.‏ وقالت طائفة الأخذ واجب من السلطان وغيره وقال آخرون هو مندوب في عطية السلطان دون غيره‏.‏ وحديث خالد بن عدي يرده‏.‏ قال الحافظ ويؤيده حديث سمرة في السنن إلا أن يسأل ذا سلطان‏.‏ قال والتحقيق في المسألة أن من علم كون ماله حلالا فلا ترد عطيته، ومن علم كون ماله حرامًا فتحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع، ومن أباحه أخذ بالأصل انتهى‏.‏ قال ابن المنذر واحتج من رخص بأن الله تعالى قال في اليهود‏:‏ ‏{‏سماعون للكذب أكالون للسحت‏} وقد رهن الشارع صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي مع علمه بذلك، وكذا أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة قال الحافظ وفي حديث الباب أن للإمام أن يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجهًا وإن كان غيره أحوج إليه منه، وأن رد عطية الإمام ليس من الأدب، ولا سيما من الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى‏:‏ ‏{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ‏}‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من هو أفقر إليه مني‏"‏ ظاهره أن عمر لم يكن غنيًا

 

ج / 4 ص -164-       لأن صيغة أفعل تدل على الاشتراك في الأصل وهو الافتقار إلى المال، ولكن ظاهر أمره صلى الله عليه وسلم له بالأخذ إذا لم يكن مستشرفًا ولا سائلًا أنه لا فرق بين كونه غنيًا أو فقيرًا وهكذا في قبول المال من غير السلطان لا فرق بين الغني والفقير على ظاهر حديث هالد بن عدي وسيكرر المصنف حديث خالد بن عدي هذا في كتاب الهبة ونذكر بقية الكلام عليه هنالك إن شاء الله تعالى‏.

باب العاملين عليها
عن بسر بن سعيد ‏"‏أن ابن السعدي المالكي قال‏:‏ استعملني عمر على الصدقة فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة، فقلت إنما عملت لله، فقال خذ ما أعطيت فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعطيت شيئًا من غير أن تسأل فكل وتصدق‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أن ابن السعدي‏"‏ هو أبو محمد عبد الله بن وقدان بن عبد الله بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي بن غالب‏.‏ وإنما قيل له السعدي لأن أباه استرضع في بني سعد بن بكر بن هوزان وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قديمًا وقال وفدت في نفر من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمالكي نسبة إلى مالك بن حنبل‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بعمالة‏"‏ قال الجوهري العمالة بالضم رزق العامل على عمله‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فعملني‏"‏ بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عمل وجعل لي عمالة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من غير أن تسأل‏"‏ فيه دليل على أنه لا يحل أكل ما حصل من المال عن مسألة‏.‏
ـ وفي الحديث ـ دليل على أن عمل الساعي سبب لاستحقاقه الأجرة كما أن وصف الفقر والمسكنة هو السبب في ذلك إذا كان العلم هو السبب اقتضى قياس قواعد الشرع المأخوذ في مقابلته أجرة يطيب له وإن نوى التبرع أو لم يكن مشروطًا اهـ‏.‏
وعن المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب‏:‏ أنه والفضل بن عباس انطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم تكلم أحدنا فقال يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات، فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس، فقال‏:‏ ‏"‏إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس‏"‏ مختصر لأحمد ومسلم‏.‏ وفي لفظ لهما‏:‏ ‏"‏لا تحل لمحمد ولا لآل محمد‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أوساخ الناس‏"‏ هذا بيان لعلة التحريم والإرشاد إلى تنزه الآل عن أكل الأوساخ وإنما

 

ج / 4 ص -165-       سميت أوساخًا لأنها تطهرة لأموال الناس ونفوسهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}‏ فذلك من التشبيه وفيه إشارة إلى أن المحرم على الآل إنما هو الصدقة الواجبة التي يحصل بها تطهير المال‏.‏ وأما صدقة التطوع فنقل الخطابي وغيره الإجماع على أنها محرمة على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وللشافعي قول أنها تحل وتحل لآل على قول الأكثر وللشافعي قول بالتحريم وسيأتي الكلام في تحريم الصدقة الواجبة على بني هاشم‏.‏ وظاهر هذا الحديث أنها لا تحل لهم ولو كان أخذهم لها من باب العمالة وإليه ذهب الجمهور‏.‏
وقال أبو حنيفة والناصر والعمالة معاوضة بمنفعة والمنافع مال فهي كما لو اشتراها بماله وهذا قياس فاسد الاعتبار لمصادمته للنص‏.‏ قال النووي وهذا ضعيف أو باطل وهذا الحديث صريح في رده‏.‏
قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق هذا الحديث ما لفظه وهو يمنع جعل العامل من ذوي القربى انتهى، وتعقب بأن الحديث إنما يمنع دخول ذوي القربي في سهم العامل ولا يمنع من جعلهم عمالًا عليها ويعطون من غيرها فإنه جائز بالإجماع‏.‏ وقد استعمل علي عليه السلام بني العباس رضي الله عنه‏.‏
وعن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرًا طيبةً به نفسه، حتى يدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏طيبة به نفسه‏"‏ هذه الأوصاف لا بد من اعتبارها في تحصيل أجر الصدقة للخازن، فإنه إذا لم يكن مسلمًا لم تصح منه نية التقرب وإن لم يكن أمينًا كان عليه وزر الخيانة فكيف يحصل له أجر الصدقة وإن لم تكن نفسه بذلك طيبة لم يكن له نية فلا يؤجر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أحد المتصدقين‏"‏ قال القرطبي لم نروه إلا بالتثنية ومعناه أن الخازن بما فعل متصدق وصاحب المال متصدق آخر فهما متصدقان قال ويصح أن يقال على الجمع فتكسر القاف ويكون معناه أنه متصدق من جملة المتصدقين‏.‏
ـ والحديث ـ يدل على أن المشاركة في الطاعة توجب المشاركة في الأجر ومعنى المشاركة أن له أجرًا كما أن لصاحبه أجرًا وليس معناه أن يزاحمه في أجره بل المراد المشاركة في الطاعة في أصل الثواب فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب وإن كان أحدهما أكثر ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء بل قد يكون ثواب هذا أكثر وقد يكون عكسه، فإذا أعطي المالك خازنه مائة درهم أو نحوها ليوصلها إلى مستحق للصدقة على باب داره، فأجر المالك أكثر وإن أعطاه رمانة أو رغيفًا أو نحوهما حيث ليس له كثير قيمة ليذهب به إلى محتاج في مسافة بعيدة بحيث يقابل ذهاب الماشي إليه أكثر من الرمانة ونحوها فأجر الخازن أكثر وقد يكون الذهاب مقدار الرمانة فيكون الأجر سواء‏.‏ قال ابن رسلان ويدخل في الخازن من يتخذه الرجل على عياله من وكيل وعبد وامرأة وغلام ومن يقوم على طعام الضيفان‏.‏ وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من استعملناه على عمل

 

ج / 4 ص -166-       فرزقناه فما أخذ بعد فهو غلول‏"‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏
الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات، وفيه دليل على أنه لا يحل للعامل زيادة على ما فرض له من استعمله وإن ما أخذه بعد ذلك فهو من الغلول وذلك بناء على أنها إجارة ولكنها فاسدة يلزم فيها أجرة المثل ولهذا ذهب البعض إلى أن الأجرة المفروضة من المستعمل للعامل تؤخذ على حسب العمل فلا يأخذ زيادة على ما يستحقه‏.‏ وقيل يأخذ ويكون من باب الصرف‏.‏
ـ وفي الحديث ـ أيضًا دليل على أنه يجوز للعامل أن يأخذ حقه من تحت يده ولقد قال المصنف رحمه الله تعالى وفيه تنبيه على جواز أن يأخذ العامل حقه من تحت يده فيقيض من نفسه انتهى‏.‏

باب المؤلفة قلوبهم
عن أنس‏:‏ ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل شيئًا على الإسلام‏.‏ إلا أعطاه قال فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، قال فرجع إلى قومه، فقال يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة‏"‏‏.‏ رواه أحمد بإسناد صحيح‏.‏
و‏"‏عن عمرو بن تغلب‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي فقسمه فأعطى رجالا وترك رجالا فبلغه أن الذين ترك عتبوا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكِل أقوامًا إلى ما جعل في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب، فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم‏"‏‏.‏ رواه أحمد والبخاري‏.‏
الحديثان يدلان على جواز التأليف لمن لم يرسخ إيمانه من مال الله عز وجل‏.‏ وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها إعطاؤه صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس وعباس بن مرداس كل إنسان منهم مائة من الإبل‏.‏ وروي أيضًا‏:‏ ‏"‏أنه أعطى علقمة بن علاثة مائة، ثم قال للأنصار لما عتبوا عليه ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم‏"‏ ثم قال لما بلغه أنهم قالوا يعطى صناديد نجد ويدعنا "إنما فعلت ذلك لأتألفهم" كما في صحيح مسلم‏.‏ وقد ذهب إلى جواز التأليف العترة والجبائي والبلخي وابن مبشر‏.‏ وقال الشافعي لا نتألف كافرًا فأما الفاسق فيعطى من سهم التأليف‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه قد سقط بانتشار الإسلام وغلبته، واستدلوا على ذلك بامتناع أبي بكر من إعطاء أبي سفيان وعيينة والأقرع وعباس بن مرداس، والظاهر جواز

 

ج / 4 ص -167-       التأليف عند الحاجة إليه فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت وقد عد ابن الجوزي أسماء المؤلفة قلوبهم في جزء مفرد فبلغوا نحو الخمسين نفسًا‏.‏

باب قول الله تعالى وفي الرقاب
‏[‏وهو يشمل بعمومه المكاتب وغيره‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لا بأس أن يعتق من زكاة ماله‏.‏ ذكره عنه أحمد والبخاري‏]‏‏.‏
وعن البراء بن عازب قال‏:‏ ‏"‏جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال دلني على عمل يقربني إلى الجنة، ويبعدني من النار، فقال‏:‏ أعتق النسمة، وفك الرقبة، قال يا رسول الله أو ليسا واحدًا، قال‏:‏ لا، عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها‏"‏‏.‏ رواه أحمد والدارقطني‏.‏
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ثلاثة كلهم حق على الله عونه الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح المتعفف‏"‏‏.‏ رواه الخمسة إلا أبو داود‏.‏
حديث البراء بن عازب قال في مجمع الزوائد رجاله ثقات، وحديث أبي هريرة قال الترمذي حسن صحيح‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏المكاتب وغيره‏"‏ قد اختلف العلماء في المراد بقوله‏:‏ تعالى‏:‏ ‏{وَفِي الرِّقَابِ ‏}‏ فروي عن علي بن أبي طالب وسعيد بن جبير والليث والثوري والعترة والحنفية والشافعية وأكثر أهل العلم أن المراد به المكاتبون يعانون من الزكاة على الكتابة‏.‏ وروي عن ابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد وإليه مال البخاري وابن المنذر أن المراد بذلك أنها تشتري رقاب لتعتق، واحتجوا بأنها لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين لأنه غارم وبأن شراء الرقبة لتعتق أولى من إعانة المكاتب لأنه قد يعان ولا يعتق لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولأن الشراء يتيسر في كل وقت بخلاف الكتابة‏.‏ وقال الزهري إنه يجمع بين الأمرين وإليه أشار المصنف وهو الظاهر، لأن الآية تحتمل الأمرين، وحديث البراء المذكور فيه دليل على أن فك الرقاب غير عتقها، وعلى أن العتق وإعانة المكاتبين على مال الكتابة من الأعمال المقربة من الجنة والمبعدة من النار‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏حق على الله‏"‏ فيه دليل على أن الله يتولى إعانة هؤلاء الثلاثة ويتفضل عليهم بأن لا يحوجهم لكن بشرط أن يكون الغازي غازيًا في سبيل الله والمكاتب مريدًا للأداء والناكح متعففًا‏.‏ وقد اختلف في المكاتب إذا كان فاسقًا هل يعان على الكتابة أم لا فذهبت الهادوية إلى أنه لا يعان قالوا لأنه لا قربة في إعانته‏.‏ وقال الشافعي والإمام يحيى والمؤيد بالله أنه يعان وهو الظاهر‏.‏

 

ج / 4 ص -168-       باب الغارمين
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة‏:‏ لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع‏"‏‏.‏ رواه أحمد وأبو داود ‏.‏
و‏"‏عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال‏:‏ تحملت حمالةً فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلى لأحد ثلاثة‏:‏ رجل تحمل حمالةً فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش أو قال سدادًا من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتًا‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود‏.‏
حديث أنس قد تقدم في باب ما جاء في الفقير والمسكين والمسألة وتقدم الكلام عليه هنالك‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏حمالة‏"‏ بفتح الحاء المهملة وهو ما يتحمله الإنسان ويلتزمه في ذمته بالاستدانة ليدفعه في إصلاح ذات البين، وإنما تحل له المسألة بسببه ويعطى من الزكاة بشرط أن يستدين لغير معصية، وإلى هذا ذهب الحسن البصري والباقر والهادي وأبو العباس وأبو طالب‏.‏ وروي عن الفقهاء الأربعة والمؤيد بالله أن يعان لأن الآية لم تفصل وشرط بعضهم أن الحمالة لا بد أن تكون لتسكين فتنة وقد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك والقيام به حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، ولا شك أن هذا من مكارم الأخلاق وكانوا إذا علموا أن أحدهم تحمل حمالة بادروا إلى معونته وأعطوه ما تبرأ به ذمته وإذا سأل لذلك لم يعد نقصًا في قدره بل فخرًا‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فنأمر لك‏"‏ بنصب الراء‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏رجل‏"‏ يجوز فيه الجر على البدل والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏جائحة‏"‏ هي ما اجتاح المال وأتلفه إتلافًا ظاهرًا كالسيل والحريق‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏قوامًا‏"‏ بكسر القاف وهو ما تقوم به حاجته ويستغني به هو بفتح القاف الاعتدال‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏سدادًا‏"‏ هو بكسر السين ما تسد به الحاجة والخلل‏.‏ وأما السداد بالفتح فقال الأزهري هو الإصابة في النطق والتدبير والرأي ومنه سداد من عوز‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من ذوي الحجا‏"‏ بكسر الحاء المهملة مقصور العقل وإنما جعل العقل معتبرًا لأن من لا عقل له لا تحصل الثقةبقوله

 

ج / 4 ص -169-       وإنما قال من قومه لأنهم أخبر بحاله وأعلم بباطن أمره والمال مما يخفى في العادة ولا يعلمه إلا من كان خبيرًا بحاله وظاهره اعتبار شهادة ثلاثة على الإعسار‏.‏ وقد ذهب إلى ذلك ابن خزيمة وبعض أصحاب الشافعي‏.‏ وقال الجمهور تقبل شهادة عدلين كسائر الشاهادات غير الزنا وحملوا الحديث على الاستحباب‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فاقة‏"‏ قال الجوهري الفاقة الفقر والحاجة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فسحت‏"‏ بضم السين وسكون الحاء المهملتين وروي بضم الحاء وهو الحرام وسمي سحتًا لأنه يسحت أي يمحق‏.‏ وهذا الحديث مخصص بما في حديث سمرة من جواز سؤال الرجل للسلطان وفي الأمر الذي لا بد منه فيراد أن على هذه الثلاثة ويكون الجميع خمسة‏.‏

باب الصرف في سبيل الله وابن السبيل
عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو جار فقير يتصدق عليه فيهدى لك أو يدعوك‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وفي لفظ‏:‏ ‏"‏لا تحل الصدقة إلا لخمسة‏:‏ لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه بها فأهدى منها لغني‏"‏‏.‏ رواه أبو داود وابن ماجه‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا أحمد ومالك في الموطأ والبزار وعبد بن حميد وأبو يعلي والبيهقي والحاكم وصححه وقد أعل بالإرسال لأنه رواه بعضهم عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه رواه الأكثر عن أبي سعيد والرفع زيادة يتعين الأخذ بها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لغني‏"‏ قد قدمنا الكلام عليه في باب ما جاء في الفقير والمسكين‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إلا في سبيل الله‏"‏ أي للغازي في سبيل الله كما في الرواية الآخرة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو ابن السبيل‏"‏ قال المفسرون هو المسافر المنقطع يأخذ من الصدقة وإن كان غنيًا في بلده‏.‏ وقال مجاهد هو الذي قطع عليه الطريق‏.‏ وقال الشافعي ابن السبيل المستحق للصدقة هو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لعامل عليها‏"‏ قال ابن عباس ويدخل في العامل الساعي والكاتب والقاسم والحاشر الذي يجمع الأموال وحافظ المال والعريف وهو كالنقيب للقبيلة وكلهم عمال لكن أشهرهم الساعي والباقي أعوان له وظاهر هذا أنه يجوز الصرف من الزكاة إلى العامل عليها سواء كان هاشميًا أو غير هاشمي ولكن هذا مخصص بحديث المطلب بن ربيعة المتقدم فإنه يدل على تحريم الصدقة على العامل الهاشمي ويؤيده حديث أبي رافع الآتي في باب تحريم الصدقة على بني هاشم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجوز له أن يصحب من بعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة لكونه من موالي بني هاشم‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو رجل اشتراها‏"‏ فيه أنه يجوز لغير دافع الزكاة شراؤها ويجوز لآخذها بيعها ولا كراهة في ذلك‏.‏ وفيه دليل على أن الزكاة الصدقة إذا ملكها الآخذ تغيرت صفتها وزال

 

ج / 4 ص -170-       عنها اسم الزكاة وتغيرت الأحكام المتعلقة بها‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏أو غارم‏"‏ وهو من غرم لا لنفسه بل لغيره كإصلاح ذات البين بأن الخلاف وقوع فتنة بين شخصين أو قبيلتين فيستدين من يطلب صلاح الحال بينهما مالا لتسكين الثائرة فيجوز له أن يقضي ذلك من الزكاة وإن كان غنيًا‏.‏ قال المصنف رحمه الله تعالى ويحمل هذا الغارم على من تحمل حمالة لإصلاح ذات البين كما في حديث قبيصة لا لمصلحة نفسه لقوله‏:‏ في حديث أنس أو ذي غرم مفظع اهـ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فاهدى منها لغني‏"‏ فيه جواز إهداء الفقير الذي صرفت إليه الزكاة بعضًا منها إلى الأغنياء لأن صفة الزكاة قد زالت عنها‏.‏ وفي أيضًا دليل على جواز قبول هدية الفقير للغني‏.‏
ـ وفي هذا الحديث ـ دليل على أنها لا تحل الصدقة لغير هؤلاء الخمسة من الأغنياء وما ورد بدليل خاص كان مخصصًا لهذا العموم، كحديث عمر المتقدم في باب ما جاء في الفقير والمسكين‏.‏
و‏"‏عن ابن لاس الخزاعي قال‏:‏ حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة إلى الحج‏"‏ ‏.‏ رواه أحمد وذكره البخاري تعليقًا ‏.‏
و‏"‏عن أم معقل الأسدية‏:‏ أن زوجها جعل بكرًا في سبيل الله وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له فأمره أن يعطيها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الحج والعمرة في سبيل الله‏"‏‏.‏ رواه أحمد ‏.‏
وعن يوسف بن عبد الله بن سلام عن جدته ‏"‏أم معقل قالت‏:‏ لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض وهلك أبو معقل وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجته جئته، فقال يا أم معقل ما منعك أن تخرجي‏؟‏ قالت لقد تهيأنا فهلك أبو معقل وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه فأوصى به أو معقل في سبيل الله، قال فهلا خرجت عليه، فإن الحج في سبيل الله‏"‏‏.‏ رواه أبو داود ‏
حديث ابن لاس سيأتي الكلام عليه‏.‏ وحديث أم معقل أخرجه بنحو الرواية الأولى أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وفي إسناده رجل مجهول‏.‏ وفي إسناده أيضًا إبراهيم بن مهاجر بن البجلي الكوفي وقد تكلم فيه غير واحد وقد اختلف على أبي بكر بن عبد الرحمن فيه فروي عنه عن رسول مروان الذي أرسله إلى أم معقل عنها‏.‏ وروي عن أم معقل بغير واسطة وروي عنه عن أبي معقل‏.‏ والرواية الثانية التي أخرجها أبو داود وفي إسنادها محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ابن لاس‏"‏ هكذا في نسخ الكتاب الصحيحة بلفظ ابن والذي

 

ج / 4 ص -171-       في البخاري أبي لاس وكذا في التقريب من ترجمة عبد الله بن عنمة، ولاس بسين مهملة خزاعي اختلف في اسمه فقيل زياد وقيل عبد الله بن عنمة بمهملة ونون مفتوحتين وقيل غير ذلك له صحبة وحديثان هذا أحدهما وقد وصله مع أحمد ابن خزيمة والحاكم وغيرهما من طريقه‏.‏ قال الحافظ ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته‏.‏
ـ وأحاديث الباب ـ تدل على أن الحج والعمرة من سبيل الله وأن من جعل شيئًا من ماله في سبيل الله جاز له صرفه في تجهيز الحجاج والمعتمرين وإذا كان شيئًا مركوبًا جاز حمل الحاج والمعتمر عليه‏.‏ وتدل أيضًا على أنه يجوز صرف شيء من سهم سبيل الله من الزكاة إلى قاصدين الحج والعمرة‏.‏

باب ما يذكر في استيعاب الأصناف في الزكاة
عن زياد بن الحارث الصدائي قال‏:‏ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتى رجل فقال أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك‏".‏ رواه أبو داود، ويروى ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمة بن صخر "اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك‏"‏ ‏.‏
حديث زياد بن الحرب الصدائي في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وقد تكلم فيه غير واحد‏.‏ وحديث سلمة بن صخر له طرق وروايات يأتي ذكر بعضها في الصيام وهذه إحداها‏.‏ وقد أخرجها بهذا اللفظ أحمد في مسنده بإسناد فيه محمد بن إسحاق ولم يصرح بالتحديث ومع هذا فهذه الرواية تعارض ما سيأتي من الروايات الصحيحة ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم أعانه بعرق من تمر‏"‏ من طريق جماعة من الصحابة‏.‏ وإنما أورد المصنف هذه الرواية ههنا للاستدلال بها على أن الصرف فيمن لزمته كفارة من الزكاة جائز‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فجزأها‏"‏ بتشديد الزاي وهذا الحديث مع الآية يرد على المزني وأبي حفص بن الوكيل من أصحاب الشافعي حيث قالا إنه لا يصرف خمس الزكاة إلى من يصرف إليه خمس الفيء والغنيمة، ويرد أيضًا على أبي حنيفة والثوري والحسن البصري حيث قالوا يجوز صرفها إلى بعض الأصناف الثمانية حتى قال أبو حنيفة يجوز صرفها إلى الواحد على مالك حيث قال يدفعها إلى أكثرهم حاجة، أي لأن كل الأصناف يدفع إليهم للحاجة فوجب اعتبار أمسهم حاجة‏.‏

باب تحريم الصدقة على بني هاشم ومواليهم دون موالي أزواجهم
عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏أخذ الحسن بن علي تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كخ كخ ارم بها أما علمت

 

ج / 4 ص -172-       أنا لا نأكل الصدقة‏"‏‏.‏ متفق عليه ولمسلم‏:‏ ‏"‏أنا لا يحل لنا الصدقة‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فجعلها في فيه‏"‏ زاد في رواية ‏"‏فلم يفطن له النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام ولعابه يسيل فضرب النبي صلى الله عليه وسلم شدقيه‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كخ كخ‏"‏ بفتح الكاف وكسرها وسكون المعجمة مثقلا ومخففًا بكسرها منونة وغير منونة فيخرج من ذلك ست لغات والثانية تأكيد للأولى وهي كلمة تقال لردع الصبي عند مناولة ما يستقذر، قيل إنها عربية وقيل أعجمية وزعم الداودي أنها معربة‏.‏ وقد أوردها البخاري في باب من تكلم الفارسية‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏ارم بها‏"‏ في رواية لأحمد‏.‏ ‏"‏ألقها يا بني‏"‏ وكأنه كلمة أولا بهذا فلما قال له ‏"‏كخ كخ‏"‏ إشارة إلى استقذار ذلك ويحتمل العكس‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا تحل لنا الصدقة‏"‏ وفي رواية ‏"‏لا تحل لآل محمد الصدقة‏"‏ وكذا عند أحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي نفسه‏.‏ قال الحافظ وإسناده قوي‏.‏ وللطبراني والطحاوي من حديث أبي ليلى الأنصاري نحوه‏.‏
‏"‏والحديث‏"‏ يدل على تحريم الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم وعلى آله‏.‏ واختلف ما المراد بالآل هنا فقال الشافعي وجماعة من العلماء إنهم بنو هاشم وبنو المطلب‏.‏ ولم يعط أحدًا من قبائل قريش غيرهم وتلك العطية عوض عوضوه بدلا عما حرموه من الصدقة، كما أخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم قال مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد‏"‏‏.‏ وأجيب عن ذلك بأنه إنما أعطاهم ذلك لموالاتهم لا عوضًا عن الصدقة‏.‏ وقال أبو حنيفة ومالك والهادوية هم بنو هاشم فقط وعن أحمد في بني المطلب روايتان‏.‏ وعن المالكية فيما بين هاشم وغالب بن فهر قولان فعن أصبغ منهم هم بنو قصي وعن غيره بنو غالب بن فهر كذا في الفتح‏.‏ والمراد ببني هاشم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس وآل الحرث ولم يدخل في ذلك آل أبي لهب لما قيل من أنه لم يسلم أحد منهم في حياته صلى الله عليه وسلم ويرده ما في جامع الأصول أنه أسلم عتبة ومعتب ابنا أبي لهب عام الفتح وسر صلى الله عليه وسلم بإسلامهما ودعا لهما وشهدا معه حنينًا والطائف ولهما عقب عند أهل النسب‏.‏ قال ابن قدامة لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة وكذا قال أبو طالب من أهل البيت حكى ذلك عنه في البحر وكذا حكى الإجماع ابن رسلان‏.‏ وقد نقل الطبري الجواز عن أبي حنيفة، وقيل عنه تجوز لهم إذا حرموا سهم ذوي القربي حكاه الطحاوي ونقله بعض المالكية عن الأبهري‏.‏ قال في الفتح وهو وجهل لبعض الشافعية‏.‏ وحكى فيه أيضًا عن أبي يوسف أنها تحل من بعضهم لبعض لا من غيرهم وحكاه في البحر عن زيد بن علي والمرتضى وأبي العباس والإمامية‏.‏ وحكاه في الشفاء عن ابني الهادي والقاسم العياني‏.‏ قال الحافظ وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة‏.‏ الجواز‏.‏ المنع‏.‏ جواز التطوع دون الفرض‏.‏ عكسه‏.‏ والأحاديث الدالة على التحريم على العموم ترد على الجميع‏.‏ وقد قيل إنها متواترة

 

ج / 4 ص -173-       تواترًا معنويًا ويؤيد ذلك قوله‏:‏ تعالى‏:‏{‏قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}‏ وقوله‏:‏ ‏{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ‏}‏ ولو أحلها لآله أوشك أن يطعنوا فيه‏.‏ ولقوله‏:‏ تعالى‏:‏ ‏{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}‏ وثبت عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أن الصدقة أوساخ الناس‏"‏ كما رواه مسلم، وأما ما استدل به القائلون بحلها للهاشمي من الهاشمي من حديث العباس الذي أخرجه الحاكم في النوع السابع والثلاثين من علوم الحديث بإسناد كله من بني هاشم ‏"‏أن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك حرمت علينا صدقات الناس هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض قال نعم‏"‏ فهذا الحديث قد اتهم فيه بعض رواته وقد أطال صاحب الميزان الكلام على ذلك فليس بصالح لتخصيص تلك العمومات الصحيحة‏.‏ وأما قول العلامة محمد بن إبراهيم الوزير بعد أن ساق الحديث ما لفظه وأحسب له متابعًا لشهرة القول به قال والقول به قول جماعة وافرة من أئمة العترة وأولادهم وأتباعهم، بل ادعى بعضهم أنه إجماعهم ولعل توارث هذا بينهم يقوي الحديث انتهى‏.‏ فكلام ليس على قانون الاستدلال لأن مجرد الحسبان أن له متابعًا وذهاب جماعة من من أهل البيت إليه لا يدل على صحته، وأما دعوى أنهم أجمعوا عليه فباطل باطل، ومطولات مؤلفاتهم ومختصراتها شاهدة لذلك‏.‏ وأما قول الأمير في المنحة أنها سكنت نفسه إلى هذا الحديث بعد وجدان سنده وما عضده من دعوى الإجماع فقد عرفت بطلان دعوى الإجماع وكيف يصح إجماع لأهل البيت والقاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله وجماعة من أكابرهم بل جمهورهم خارجون عنه‏.‏ وأما مجرد وجدان السند للحديث بدون كشف عنه فليس مما يوجب سكون النفس‏.‏
ـ والحاصل ـ أن تحريم الزكاة على بني الهاشم معلول من غير فرق بين أن يكون المزكي هاشميًا أو غيره فلا ينفق من المعاذير عن هذا المحرم المعلوم إلا ما صح عن الشارع، لا ما لفقه الواقعون في هذه الورطة من الأعذار الواهية التي لا تخلص، ولا ما لم يصح من الأحاديث المروية في التخصيص، ولكثرة أكلة الزكاة من آل هاشم في بلاد اليمن خصوصًا أرباب الرياسة قام بعض العلماء منهم في الذب عنهم، وتحليل ما حرم الله عليهم، مقامًا لا يرضاه الله ولا نقاد العلماء، فألف في ذلك رسالة هي في الحقيقة كالسراب الذي يحبسه الظمآن ماء حتى إذا جاء لم يجده شيئًا وصار يتسلى بها أرباب النباهة منهم‏.‏ وقد يتعلل بعضهم بما قاله البعض منهم أن أرض اليمن خراجية وهو لا يشعر أن هذه المقالة مع كونها من أبطل الباطلات ليس مما يجوز التقليد فيه على مقتضى أصولهم فالله المستعان ما أسرع الناس إلى متابعة الهوى وإن خالف ما هو معلوم من الشريعة المطهرة‏.‏
ـ واعلم ـ أن ظاهر قوله‏:‏ لا تحل لنا الصدقة عدم حل صدقة الفرض والتطوع وقد نقل جماعة الخطابي الإجماع على تحريمهما عليه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وتعقب بأنه قد حكى غير واحد عن الشافعي في التطوع قولا‏.‏ وكذا في رواية عن أحمد‏.‏ وقال ابن قدامة ليس ما نقل عنه من ذلك بواضح الدلالة‏.‏ وأما آل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أكثر الحنفية وهو المصحح عن الشافعية والحنابلة وكثير من الزيدية أنها تجوز لهم صدقة التطوع دون الفرض‏.‏ قالوا لأن المحرم عليهم إنما هو أوساخ الناس وذلك هو الزكاة لا صدقة

 

ج / 4 ص -174-       التطوع وقال في البحر إنه خصص صدقة التطوع القياس على الهبة والهدية والوقف‏.‏ وقال أبو يوسف وأبو العباس إنها تحرم عليهم كصدقة الفرض لأن الدليل لم يفصل‏.‏
و‏"‏عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع اصحبني كيما تصيب منها قال لا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله وانطلق فسأله، فقال إن الصدقة لا تحل لنا وإن موالي القوم من أنفسهم‏"‏، رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي‏.‏
الحديث أخرجه أيضًا ابن خزيمة وابن حبان وصححاه ـ وفي الباب ـ عن ابن عباس عند الطبراني‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏من أنفسهم‏"‏ بضم الفاء ولفظ الترمذي ‏"‏مولى القوم منهم‏"‏ أي حكمه كحكمهم ‏"‏الحديث‏"‏ يدل على تحريم الصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم وتحريمها على آله وقد تقدم الكلام على ذلك، ويدل على تحريمها على موالي آل بني هاشم ولو كان الأخذ على جهة العمالة وقد سلف ما فيه‏.‏ قال الشافعي حرم على مواليه الصدقة ما حرم على نفسه وبه قال أبو حنيفة وهو مروي أيضًا عن الناصر والشافعي وأصحابه وإليه ذهب المؤيد بالله أبو طالب وهو مروي عن الناصر وابن الماجشون‏.‏ وقال مالك ويحيى وهو مروي أيضًا عن الناصر والشافعي في وقول له إنها تحل لهم قال في البحر لأن علة التحريم مفقودة وهي الشرف‏.‏ قلنا جزم الخبر يدفع ذلك انتهى‏.‏ ونصب هذه العلة مقابل هذا الدليل الصحيح من الغرائب التي يعتبر بها المتيقظ‏.‏
و‏"‏عن أم عطية قالت‏:‏ بعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة من الصدقة فبعثت إلى عائشة منها بشيء، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ هل عندكم من شيء‏؟‏ فقالت لا إلا أن نسيبة بعثت إلينا من الشاة التي بعثتم بها إليها، فقال‏:‏ إنها قد بلغت محلها‏"‏ متفق عليه‏.‏
و‏"‏عن جويرة بنت الحارث‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقال‏:‏ هل من طعام‏؟‏ فقالت لا والله ما عندنا طعام إلا عظم من شاة أعطيتها مولاتي من الصدقة، فقال‏:‏ قدميها فقد بلغت محلها‏"‏‏.‏ رواه أحمد ومسلم ‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏هل عندكم من شيء‏"‏ أي من الطعام‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏نسيبة‏"‏ قال في الفتح بالنون والمهملة والموحدة مصغرًا اسم أم عطية انتهى‏.‏ وأما نسيبة بفتح النون وكسر السين فهي أم عمارة‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏بلغت محلها‏"‏ أي أنها لما تصرفت فيها بالهدية لصحة ملكها لها انتقلت عن حكم الصدقة فحلت محل الهدية وكانت تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الصدقة كما تقدم كذا قال ابن بطال‏.‏ قال في الفتح وضبطه

 

ج / 4 ص -175-       بعضهم بكسرها من الحلول أي بلغت مستقرها والأول أولى انتهى‏.‏
ـ والحديث ـ يدل على ان موالي أزواج بني هاشم ليس حكمهم كحكم موالي بني هاشم فنحل لهم الصدقة وقد نقل ابن بطال اتفاق افقهاء على عدم دخول الزوجات في ذلك وفيه نظر لأن ابن قدامة ذكر أن الخلال أخرج من طريق ابن أبي مليكة ‏"‏عن عائشة أنها قالت إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة‏"‏ قال وهذا يدل على تحريمها‏.‏ قال الحافظ وإسناده إلى عائشة حسن‏.‏ وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا وهذا لا يقدح فيما نقله ابن بطال وذكر ابن المنير أنها لا تحرم الصدقة على الأزواج قولًا واحدًا‏.‏ ‏"‏ولا يقال‏"‏ إن قول البعض يدخلهن في الآل يستلزم تحريم الصدقة عليهن فإن ذلك غير لازم ‏"‏وفيه الحديثين‏"‏ أيضًا دليل على أنه يجوز لمن تحرم عليه الصدقة الأكل منها بعد مصيرها إلى المصرف وانتقالها عنه بهبة أو هدية أو نحوها‏.‏ وفي الباب عن عائشة عند البخاري وغيره ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلحم فقالت له هذا ما تصدق به على بريرة فقال هو لها صدقة ولنا هدية‏"‏‏.‏

باب نهي المتصدق أن يشتري ما تصدق به
و‏"‏عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه وظننت أنه يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لا تشتره ، ولا تعد في صدقتك ، وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه‏"‏‏.‏ متفق عليه‏.‏
عن ابن عمر ‏:‏ ‏"‏أن عمر حمل على فرس في سبيل الله‏"‏‏.‏ وفي لفظ ‏:‏ ‏"‏تصدق بفرس في سبيل الله ، ثم رآها تباع فأراد أن يشتريها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ لا تعد في صدقتك يا عمر‏"‏‏.‏ رواه الجماعة زاد البخاري ‏"‏فبذلك كان ابن عمر لا يترك أن يبتاع شيئًا تصدق به إلا جعله صدقة‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏عن عمر‏"‏ هذا يقتضي أن الحديث من مسند عمر والرواية الأخرى تقتضي أنه من مسند ابن عمر‏.‏ ورجح الدارقطني الثاني‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏حملت على فرس‏"‏ المراد أنه ملكه ولذلك ساغ له بيعه ومنهم من قال كان عمر قد حبسه، وإنما ساغ للرجل بيعه لأنه حصل فيه هزال عجز بسببه عن اللحاق بالخيل وضعف عن ذلك وانتهى إلى حالة عدم الانتفاع به ويرجح الأول قوله‏:‏ لا تعد في صدقتك ولو كان حبسًا لعلله به‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏فأضاعه‏"‏ أي لم يحسن القيام عليه وقصر في مؤنته وخدمته وقيل لم يعرف مقداره فأراد بيعه بدون قيمته وقيل معناه استعمله في غير ما جعل له والأول أظهر‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏وإن أعطاكه بدرهم‏"‏ هو مبالغة في تنقيصه وهو الحامل له على شرائه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا تعد‏"‏ إنما سمي شراءه برخص عودًا في الصدقة من حيث أن الغرض منها ثواب الآخرة، فإذا اشتراها برخص

 

ج / 4 ص -176-       فكأنه اختار عرض الدنيا على الآخرة فيصير راجعًا في ذلك المقدار الذي سومح فيه‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏كالعائد في قيئه‏"‏ استدل به على تحريم ذلك لأن القيء حرام‏.‏ قال القرطبي وهذا هو الظاهر من سياق الحديث ويحتمل أن يكون التشبيه للتنفير خاصة لكون القيء مما يستقذر وهو قول الأكثر ويلحق بالصدقة الكفارة والنذر وغيرهما من القربات‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏لا يترك أن يبتاع‏"‏ إلخ أي كان إذا اتفق له أن يشتري مما تصدق به لا يتركه في ملكه حتى يتصدق به فكأنه فهم أن النهي عن شراء الصدقة إنما هو لمن أراد أن يتملكها لا لمن يردها صدقة‏.‏
ـ والحديث ـ يدل على كراهة الرجوع عن الصدقة وإن شراءها برخص نوع من الرجوع فيكون مركوهًا‏.‏ وقد قيل أنه يعارض هذا الحديث الحديث المتقدم عن أبي سعيد في حل الصدقة لرجل اشتراها بماله وجمع بينهما بحمل هذا على كراهة التنزيه، ولهذا قال المصنف رحمه الله تعالى وحمل ابن عمر وهو راوي الخبر، ولو فهم منه التحريم لما فعله وتقرب بصدقة تستند إليه انتهى‏.‏ والظاهر أنه لا معارضة بين هذا وبين حديث أبي سعيد المتقدم لأن هذا صدقة التطوع وذاك صدقة الفريضة لأنه لا يتصور الرجوع فيها حتى يكون الشراء مشبها له بخلاف صدقة التطوع فإنه يتصور الرجوع فيها فكره ما يشبهه وهو الشراء، نعم يعارض حديث الباب في الظاهر ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ‏"‏أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كنت تصدقت على أمي بوليدة وأنها ماتت وتركت تلك الوليدة قال وجب أجرك ورجعت إليك في الميراث‏"‏ ويجمع بجواز تملك الشيء المتصدق به بالميراث لأن ذلك ليس مشبها بالرجوع عن الصدقة دون سائر المعاوضات‏.‏

باب فضل الصدقة على الزوج والأقارب
عن زينب امرأة عبدالله بن مسعود قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن‏:‏ قالت فرجعت إلى عبدالله فقلت إنك رجل خفيف ذات اليد وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة فأته فاسأله فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم قالت، فقال عبدالله بل ائتيه أنت قالت فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة قالت فخرج علينا بلال فقلنا له ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك أيجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما ولا تخبر من نحن، قالت

 

ج / 4 ص -177-       فدخل بلال فسأله، فقال له‏:‏ من هما‏؟‏ فقال امرأة من الأنصار وزينب، فقال‏:‏ أي الزيانب‏؟‏ فقال امرأة عبدالله، فقال‏:‏ لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة‏"‏‏.‏ متفق عليه، ولفظ البخاري‏:‏ ‏"‏أيجزئ عني أن أنفق على زوجي، وعلى أيتام لي في حجري‏"‏‏.‏
قوله‏:‏ ‏"‏إنك رجل خفيف ذات اليد‏"‏ هذا كناية عن الفقر‏.‏ وفي لفظ للبخاري ‏"‏إن زينب كانت تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها فقالت لعبد الله سل رسول الله أيجزئ عني أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة‏"‏‏. ‏الحديث‏.‏ قوله‏:‏ ‏"‏فإذا امرأة من الأنصار‏"‏ زاد النسائي والطيالسي ‏"‏يقال لها زينب‏"‏‏.‏ وفي رواية للنسائي ‏"‏انطلقت امرأة عبد الله يعني ابن مسعود وامرأة أبي مسعود يعني عقبة بن عمرو الأنصاري‏"‏‏.‏
ـ استدل بهذا الحديث ـ على أنه يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها إلى زوجها ربه قال الثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك‏.‏ وعن أحمد وإليه ذهب الهادي والناصر والمؤيد بالله هذا إنما يتم دليلًا بعد تسليم أن هذه الصدقة صدقة واجبة وبذلك جزم المازري‏.‏ ويؤيد ذلك قوله‏:‏ ‏"‏أيجزئ عني‏"‏ وتعقبه عياض بأن قوله‏:‏ ولو من حليكين وكون صدقتها كانت من صناعتها يدلان على التطوع وبه جزم النووي وتأولوا قوله‏:‏ا أيجزئ عني في الوقاية من النار كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا يحصل لها المقصود وما أشار إليه من الصناعة احتج به الطحاوي لقول أبي حنيفة أنها لا تجزئ زكاة المرأة في زوجها‏.‏ فأخرج من طريق رائطة امرأة ابن مسعود أنها كانت امرأة صنعاء اليدين فكانت تنفق سليه وعلى ولده فهذا يدل على أنها صدقة تطوع ‏"‏واحتجوا‏"‏ أيضًا على أنها صدقة تطوع بما في البخاري من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏"‏زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم‏"‏ قالوا لأن الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة بالإجماع كما نقله ابن المنذر والمهدي في البحر وغيرهما، وتعقب هذا بأن الذي يمتنع إعطاؤه من الصدقة الواجبة من تلزم المعطى نفقته والأم لا يلزمها نفقة ابنها مع وجود أبيه‏.‏ قال المصنف رحمه الله تعالى بعد أن ساق الحديث وهذا عند أكثر أهل العلم في صدقة التطوع انتهى‏.‏ والظاهر أنه يجوز للزوجة صرف زكاتها إلى زوجها أما أولا فلعدم المانع من ذلك، ومن قال أنه لا يجوز فعليه الدليل وأما ثانيًا فلأن ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم لها ينزل منزلة العموم فلما لم يستفصلها عن الصدقة هل هي تطوع أو واجب فكأنه قال يجزي عنك فرضًا كان أو تطوعًا‏.‏
ـ وقد اختلف ـ في الزوج هل يجوز أن يدفع زكاته إلى زوجته فقال ابن المنذر أجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة شيئًا لأن نفقتها واجبة عليه ويمكن أن يقال أن التعليل بالوجوب على الزوج لا يوجب امتناع الصرف إليها لأن نفقتها واجبة عليه غنية كانت أو فقيرة فالصرف إليها لا يسقط عنه شيئًا‏.‏ وأما الصدقة على الأصول والفصول وبقية القرابة فسيأتي الكلام عليها‏.‏

 

ج / 4 ص -178-       2 - وعن سلمان بن عامر: "عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة"- رواه أحمد وابن ماجه والترمذي.
3 - وعن أبي أيوب قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: إن أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح".- رواه أحمد. وله مثله من حديث  حكيم بن حزام.
4 - وعن ابن عباس قال: "إذا كان ذوو قرابة لا تعولهم فأعطهم من زكاة مالك وإن كنت تعولهم فلا تعطهم ولا تجعلها لمن تعول"- رواه الأثرم في سننه.
- حديث سلمان أخرجه أيضاً النسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم وحسنه الترمذي. قال الحافظ: وفي الباب عن أبي طلحة وأبي أمامة عند الطبراني. قوله: "الكاشح" هو المضمر للعداوة.
وقد استدل بالحديثين على جواز صرف الزكاة إلى الأقارب سواء كانوا ممن تلزم لهم النفقة أم لا لأن الصدقة المذكورة فيهما لم تقيد بصدقة التطوع ولكنه قد تقدم عن ابن المنذر وصاحب البحر أنهما حكيا الإجماع على عدم جواز صرف الزكاة إلى الأولاد وكذا سائر الأصول والفصول كما في البحر فإنه قال مسألة: ولا تجزئ في أصوله وفصوله مطلقاً إجماعاً. وقال صاحب ضوء النهار: إن دعوى الإجماع وهم قال وكيف ومحمد بن الحسن ورواية عن العباس إنها تجزئ في الآباء والأمهات ثم قال: قلت والمسألة في البحر لم تنسب إلى قائل فضلاً عن الإجماع وهذا وهم منه رحمه اللَّه تعالى. فإن صاحب البحر صرح بنسبتها إلى الإجماع كما حكيناه سالفاً فقد نسبت إلى قائل وهم أهل الإجماع إلا أنه يدل لما روي عن ابن عباس ومحمد بن الحسن ما في البخاري وأحمد عن معن بن يزيد قال: "أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فقال: واللَّه ما إياك أردت فجئت فخاصمته إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقال: لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن"
وسيأتي هذا الحديث في كتاب الوكالة إن شاء اللَّه تعالى ولكنه يحتمل أن تكون الصدقة صدقة تطوع بل هو الظاهر. وقد روي عن مالك أنه يجوز الصرف في بني البنين وفيما فوق الجد والجدة وأما غير الأصول والفصول من القرابة الذين تلزم نفقتهم فذهب الهادي والقاسم والناصر والمؤيد باللَّه ومالك والشافعي إلى أنه لا يجزئ الصرف إليهم. وقال أبو حنيفة وأصحابه والإمام يحيى: يجوز ويجزئ إذ لم يفصل الدليل لعموم الأدلة المذكورة في الباب وقال الأولون: إنها مخصصة بالقياس ولا أصل له. وأما الأثر المروي عن ابن عباس فكلام صحابي ولا حجة فيه لأن للاجتهاد في ذلك مسرحاً. ويؤيد الجواز والإجزاء الحديث الذي تقدم عند البخاري بلفظ: "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم" وترك  الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما سلف ثم الأصل عدم المانع فمن زعم أن القرابة أو وجوب النفقة مانعان فعليه الدليل ولا دليل.

 

ج / 4 ص -179-       باب زكاة الفطر.
1 - عن ابن عمر قال: "فرض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين". - رواه الجماعة. ولأحمد والبخاري وأبي داود: "وكان ابن عمر يعطي التمر إلا عاماً واحداً أعوز التمر فأعطى الشعير" وللبخاري: "وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين".
2 - وعن أبي سعيد قال: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب".
 - أخرجاه. وفي رواية: "كنا نخرج زكاة الفطر إذا كان فينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة فقال: إني لأرى مدين من سمراء الشام يعدل صاعاً من تمر فأخذ الناس بذلك قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه" رواه الجماعة لكن البخاري لم يذكر فيه قال أبو سعيد فلا أزال الخ. وابن ماجه لم يذكر لفظة أو في شيء منه. وللنسائي عند أبي سعيد قال: "فرض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صدقة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط وهو حجة في أن الأقط أصل. وللدارقطني عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن عياض بن عبد اللَّه عن أبي سعيد قال: "ما أخرجنا على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إلا صاعاً من دقيق أو صاعاً من تمر أو صاعاً من سلت أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من شعير أو صاعاً من أقط". فقال ابن المديني لسفيان: يا أبا محمد إن أحداً لا يذكر في هذا الدقيق قال: بلى هو فيه. رواه الدارقطني واحتج به أحمد على إجزاء الدقيق.

 

ج / 4 ص -180-       - قوله: "فرض" فيه دليل على أن صدقة الفطر من الفرائض وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك ولكن الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرضية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب قالوا إذ لا دليل قاطع تثبت به الفرضية. قال الحافظ: " وفي نقل الإجماع نظر لأن إبراهيم بن علية وأبا بكر بن كيسان الأصم قالا: إن وجوبها نسخ واستدل لهما بما روى النسائي وغيره عن قيس بن سعد بن عبادة قال: "أمرنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله" قال: وتعقب بأن في إسناده راوياً مجهولاً وعلى تقدير الصحة فلا دليل فيه على النسخ لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول لأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر.
ونقل المالكية عن أشهب أنها سنة مؤكدة وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية قالوا ومعنى قوله في الحديث فرض أي قدر وهو أصله في اللغة كما قال ابن دقيق العيد لكن نقل في عرف الشرع إلى الوجوب فالحمل عليه أولى. وقد ثبت أن قوله تعالى { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } نزلت في زكاة الفطر كما روى ذلك ابن خزيمة.
قوله: "زكاة الفطر" أضيفت الزكاة إلى الفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان كذا قال في الفتح. وقال ابن قتيبة: والمراد بصدقة الفطر صدقة النفوس مأخوذ من الفطرة التي هي أصل الخلقة. قال الحافظ: والأول أظهر. ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث زكاة الفطر في رمضان.
وقد استدل بقوله زكاة الفطر على أن وقت وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر لأنه وقت الفطر من رمضان وقيل وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد لأن الليل ليس محلاً للصوم وإنما يتبين الفطر الحقيقي بالأكل بعد طلوع الفجر والأول قول الثوري وأحمد وإسحاق والشافعي في الجديد وإحدى الروايتين عن مالك والثاني قول أبي حنيفة والليث والشافعي في القديم والرواية الثانية عن مالك وبه قال الهادي والقاسم والناصر والمؤيد باللَّه ويقويه قوله في حديث ابن عمر الآتي أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ولكنها لم تقيد القبلية بكونها في يوم الفطر.
قال ابن دقيق العيد: الاستدلال بقوله زكاة الفطر على الوقت ضعيف لأن الإضافة إلى الفطر لا تدل على وقت الوجوب بل تقتضي إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان وأما وقت الوجوب فيطلب من أمر آخر.
قوله: "صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير" قال في الفتح: انتصب صاعاً على التمييز أو أنه مفعول ثان.
قوله:"على العبد والحر" ظاهره يدل على أن العبد يخرج عن نفسه ولم يقل به إلا داود فقال يجب على السيد أن يمكن عبده من الاكتساب لها ويدل على ما ذهب إليه الجمهور من كون الوجوب على "ص 251" السيد حديث: "ليس على المرء في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر" ولفظ مسلم:"ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر".
قوله: "الذكر والأنثى" ظاهره وجوبها على المرأة سواء كان لها زوج أم لا. وبه قال الثوري وأبو حنيفة وابن المنذر وقال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق: تجب على زوجها تبعاً للنفقة. قال الحافظ: وفيه نظر لأنهم قالوا إن أعسر وكانت الزوجة أمة وجبت فطرتها على السيد بخلاف النفقة فافترقا. واتفقوا على أن المسلم لا يخرج

 

ج / 4 ص -181-       عن زوجته الكافرة مع أن نفقتها تلزم وإنما احتج الشافعي بما رواه من طريق محمد بن علي الباقر مرسلاً: "أدوا صدقة الفطر عمن يمونون" وأخرجه البيهقي من هذا الوجه فزاد في إسناده ذكر على وهو منقطع. وأخرجه من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف وأخرجه أيضاً عنه الدارقطني.
قوله: "والصغير والكبير" وجوب فطرة الصغير في ماله والمخاطب بإخراجها وليه وإن كان للصغير مال وإلا وجبت على من تلزمه نفقته وإلى هذا ذهب الجمهور. وقال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقاً فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه. وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري: لا تجب إلا على من صام واستدل لهما بحديث ابن عباس الآتي بلفظ: "صدقة الفطر طهرة للصائم" قال في الفتح: وأجيب بأن ذكر التطهير خرج مخرج الغالب كما أنها تجب على من لا يذنب كمتحقق الصلاح أو من أسلم قبل غروب الشمس بلحظة قال: فيه. ونقل ابن المنذر الإجماع على أنهما لا تجب على الجنين وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه.
قوله: "من المسلمين" فيه دليل على اشتراط الإسلام في وجوب الفطرة فلا تجب على الكافر.
قال الحافظ: وهو أمر متفق عليه وهل يخرجها عن غيره كمستولدته المسلمة نقل ابن المنذر فيه الإجماع على عدم الوجوب لكن فيه وجه للشافعية ورواية عن أحمد. وهل يخرجها المسلم عن عبده الكافر قال الجمهور: لا. خلافاً لعطاء والنخعي والثوري والحنفية وإسحاق واستدلوا بقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم: "ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر" وأجاب الجمهور بأنه يبني عموم قوله في عبده على خصوص قوله من المسلمين في حديث الباب ولا يخفى أن قوله من المسلمين أعم من قوله في عبده من وجه وأخص من وجه فتخصيص أحدهما بالآخر تحكم ولكنه يؤيد اعتبار الإسلام ما عند مسلم بلفظ: "على كل نفس من المسلمين حر أو عبد" واحتج بعضهم على وجوب إخراجها عن العبد بأن ابن عمر راوي الحديث كان يخرج عن عبده الكافر وهو أعرف بمراد الحديث وتعقبه بأنه لو صح حمل على "ص 252" أنه كان يخرج عنهم تطوعاً ولا مانع منه.
وظاهر الأحاديث عدم الفرق بين أهل البادية وغيرهم وإليه ذهب الجمهور. وقال الزهري وربيعة والليث: إن زكاة الفطر تختص بالحاضرة ولا تجب على أهل البادية.
قوله: "أعوز التمر" بالمهملة والزاي أي احتاج يقال أعوزني الشيء إذا احتجت إليه فلم أقدر عليه وفيه دليل على أن التمر أفضل ما يخرج في صدقة الفطر.
قوله: "بيوم أو يومين" فيه دليل على جواز تعجيل الفطرة قبل يوم الفطر وقد جوزه الشافعي من أول رمضان وجوزه الهادي والقاسم وأبو حنيفة وأبو العباس وأبو طالب ولو إلى عامين عن البدن الموجود وقال الكرخي وأحمد بن حنبل: لا تقدم على وقت وجوبها إلا ما يغتفر كيوم أو يومين وقال مالك والناصر والحسن بن زياد: لا يجوز التعجيل مطلقاً كالصلاة قبل الوقت وأجاب عنهم في البحر بأن ردها إلى الزكاة أقرب. وحكى الإمام يحيى إجماع السلف على جواز التعجيل.
قوله: "صاعاً من طعام" الخ ظاهره المغايرة بين الطعام وبين ما ذكر بعده وقد حكى الخطابي أن المراد بالطعام هنا الحنطة وأنه اسم خاص له قال هو وغيره:

 

ج / 4 ص -182-       قد كانت لفظة الطعام تستعمل في الحنطة عند الإطلاق حتى إذا قيل اذهب إلى سوق الطعام فهم منه سوق القمح وإذا غلب العرف نزل اللفظ عليه لأنه لما غلب استعمال اللفظ فيه كان خطوره عند الإطلاق أغلب. قال في الفتح: وقد رد ذلك ابن المنذر وقال: ظن بعض أصحابنا أن قوله في حديث أبي سعيد صاعاً من طعام حجة لمن قال صاع من حنطة وهذا غلط منه وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام ثم أورد طريق حفص بن ميسرة عند البخاري وغيره أن أبا سعيد قال: "كنا نخرج في عهد النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يوم الفطر صاعاً من طعام قال أبو سعيد وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر" وهي ظاهرة فيما قال. وأخرج الطحاوي نحوه من طريق أخرى وأخرج ابن خزيمة والحاكم في صحيحهما أن أبا سعيد قال لما ذكروا عنده صدقة رمضان لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم صاع تمر أو صاع حنطة أو صاع شعير أو صاع أقط فقال له رجل من القوم أو مدين من قمح فقال لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها. قال ابن خزيمة: ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد هذا غير محفوظ ولا أدري ممن الوهم ويدل على أنه خطأ قوله فقال رجل الخ إذ لو كان أبو سعيد أخبر أنهم "ص 253" كانوا يخرجون منها صاعاً لما قال الرجل أو مدين من قمح. وقد أشار أيضاً أبو داود إلى أن ذكر الحنطة فيه غير محفوظ.
قوله: "حتى قدم معاوية" زاد مسلم: "حاجاً أو معتمراً وكلم الناس على المنبر" وزاد ابن خزيمة: وهو يومئذ خليفة.
قوله: "من سمراء الشام" بفتح السين المهملة وإسكان الميم وبالمد هي القمح الشامي. قال النووي: تمسك بقول معاوية من قال بالمدين من الحنطة وفيه نظر لأنه فعل صحابي قد خالف فيه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بحال النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقد صرح بأنه رأي رآه لا أنه سمعه من النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم. قال ابن المنذر: لا نعلم في القمح خبراً ثابتاً عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم يعتمد عليه ولم يكن البر بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من الشعير وهم الأئمة فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم ثم أسند عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر بأسانيد قال الحافظ صحيحة. أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح انتهى. وهذا مصير منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفية لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك وكذلك ابن عمر فلا إجماع في المسألة.
قوله: "ولم يذكر لفظة أو" يعني لم يذكر حرف التخيير في شيء من طرق الحديث.
قوله: "أو صاعاً من أقط" بفتح الهمزة وكسر القاف وهو لبن يابس غير منزوع الزبد. وقال الأزهري: يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى ينصل. وقد اختلف في إجزائه على قولين أحدهما أنه لا يجزئ لأنه غير مقتات وبه قال أبو حنيفة إلا أنه جاز إخراجه بدلاً عن القيمة على قاعدته. والقول الثاني أنه يجزئ وبه قال مالك وأحمد وهو الراجح لهذا الحديث الصحيح من غير معارض. وروي عن أحمد أنه يجزئ مع عدم وجدان غيره وزعم الماوردي أنه يجزئ عن أهل البادية دون أهل الحاضرة فلا يجزئ عنهم بلا خلاف وتعقبه النووي

 

ج / 4 ص -183-       فقال: قطع الجمهور بأن الخلاف في الجميع.
قوله: "إلا صاعاً من دقيق" ذكر الدقيق ثابت في سنن أبي داود من حديث أبي سعيد أيضاً ولكنه قال أبو داود: إن ذكر الدقيق وهم من ابن عيينة. وقد روى ذلك ابن خزيمة من حديث ابن عباس قال: "أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أن تؤدى زكاة رمضان صاعاً من طعام عن الصغير والكبير "ص 254" والحر والمملوك من أدى سلتاً قبل منه وأحسبه قال من أدى دقيقاً قبل منه ومن أدى سويقاً قبل منه ورواه الدارقطني ولكن قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: منكر لأن ابن سيرين لم يسمع من ابن عباس.
وقد استدل بذلك على جواز إخراج الدقيق كما يجوز إخراج السويق وبه قال أحمد وأبو قاسم الأنماطي لأنه مما يكال وينتفع به الفقير وقد كفى فيه الفقير مؤنة الطحن.
وقال الشافعي ومالك: إنه لا يجزئ إخراجه لحديث ابن عمر المتقدم ولأن منافعه قد نقصت والنص ورد في الحب وهو يصلح لما لا يصلح له الدقيق والسويق.
قوله: "من سلت" بضم السين المهملة وسكون اللام بعدها مثناة فوقية نوع من الشعير وهو كالحنطة في ملاسته وكالشعير في برودته وطبعه. والروايات المذكورة في الباب تدل على أن الواجب من هذه الأجناس المنصوصة في الفطرة صاع ولا خلاف في ذلك إلا في البر والزبيب.
وقد ذهب أبو سعيد وأبو العالية وأبو الشعثاء والحسن البصري وجابر بن زيد والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق والهادي والقاسم والناصر والمؤيد باللَّه إلى أن البر والزبيب كذلك يجب من كل واحد منهما صاع وقال من تقدم ذكره من الصحابة في كلام ابن المنذر وزاد في البحر أبا بكر وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وزيد بن علي والإمام يحيى أن الواجب نصف صاع منهما والقول الأول أرجح لأن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فرض صدقة الفطر صاعاً من طعام والبر مما يطلق عليه اسم الطعام إن لم يكن غالباً فيه كما تقدم وتفسيره بغير البر إنما هو لما تقدم من أنه لم يكن معهوداً عندهم فلا يجزئ دون الصاع منه ويمكن أن يقال أن البر على تسليم دخوله تحت لفظ الطعام مخصص بما أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعاً بلفظ: "صدقة الفطر مدان من قمح" وأخرج نحوه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً أيضاً. وأخرج نحوه الدارقطني من حديث عصمة بن مالك وفي إسناده الفضل بن المختار وهو ضعيف. وأخرج أبو داود والنسائي عن الحسن مرسلاً بلفظ: "فرض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم هذه الصدقة صاعاً من تمر أو من شعير أو نصف صاع من قمح".
وأخرج أبو داود من حديث عبد اللَّه بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد اللَّه بن أبي صغير بلفظ: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: صدقة الفطر صاع من بر أو قمح عن كل اثنين".
وأخرج سفيان الثوري في جامعه عن علي عليه السلام موقوفاً "ص 255" بلفظ: "نصف صاع بر" وهذه تنتهض بمجموعها للتخصيص. وحديث أبي سعيد الذي فيه التصريح بالحنطة قد تقدم ما فيه على أنه لم يذكر إطلاع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم على ذلك.
3 - وعن ابن عمر: "أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة". - رواه الجماعة إلا ابن ماجه.

 

ج / 4 ص -184-       - قوله: "قبل خروج الناس إلى الصلاة" قال ابن التين: أي قبل خروج الناس إلى صلاة العيد وبعد صلاة الفجر. قال ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته فإن اللَّه تعالى يقول {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ولابن خزيمة من طريق كثير بن عبد اللَّه عن أبيه عن جده أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم سئل عن هذه الآية فقال: "نزلت في زكاة الفطر" وحمل الشافعي التقييد بقبل صلاة العيد على الاستحباب لصدق اليوم على جميع النهار. وقد رواه أبو معشر عن نافع عن ابن عمر بلفظ: "كان يأمرنا أن نخرجها قبل أن نصلي فإذا انصرف قسمه بينهم وقال: أغنوهم عن الطلب" أخرجه سعيد بن منصور ولكن أبو معشر ضعيف. ووهم ابن العربي في عزو هذه الزيادة لمسلم.
"وقد استدل" بالحديث على كراهة تأخيرها عن الصلاة وحمله ابن حزم على التحريم.
4 - وعن ابن عباس قال: "فرض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".
 - رواه أبو داود وابن ماجه. - الحديث أخرجه أيضاً الدارقطني والحاكم وصححه.
قوله: "طهرة" أي تطهيراً لنفس من صام رمضان من اللغو وهو ما لا ينعقد عليه القلب من القول والرفث. قال ابن الأثير: الرفث هنا هو الفحش من الكلام.
قوله: "وطعمة" بضم الطاء وهو الطعام الذي يؤكل. وفيه دليل على أن الفطرة تصرف في المساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة كما ذهب إليه الهادي والقاسم وأبو طالب. وقال المنصور باللَّه: هي كالزكاة فتصرف في مصارفها وقواه المهدي.
قوله: "من أداها قبل الصلاة" أي "ص 256" قبل صلاة العيد.
قوله: "فهي زكاة مقبولة" المراد بالزكاة صدقة الفطر.
قوله: "فهي صدقة من الصدقات" يعني التي يتصدق بها في سائر الأوقات وأمر القبول فيها موقوف على مشيئة اللَّه تعالى. والظاهر أن من أخرج الفطرة بعد صلاة العيد كان كمن لم يخرجها باعتبار اشتراكهما في ترك هذه الصدقة الواجبة وقد ذهب الجمهور إلى أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مستحب فقط وجزموا بأنها تجزئ إلى آخر يوم الفطر والحديث يرد عليهم. وأما تأخيرها عن يوم العيد فقال ابن رسلان: إنه حرام بالاتفاق لأنها زكاة فوجب أن يكون في تأخيرها إثم كما في إخراج الصلاة عن وقتها. وحكى في البحر عن المنصور باللَّه أن وقتها إلى آخر اليوم الثالث من شهر شوال.
5 - وعن إسحاق بن سليمان الرازي قال: "قلت لمالك بن أنس أبا عبد اللَّه كم قدر صاع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حزرته فقلت: أبا عبد اللَّه خالفت شيخ القوم قال: من

 

ج / 4 ص -185-       هو قلت: أبو حنيفة يقول ثمانية أرطال فغضب غضباً شديداً ثم قال لجلسائنا: يا فلان هات صاع جدك يا فلان هات صاع عمك يا فلان هات صاع جدتك قال إسحاق: فاجتمعت آصع فقال: ما تحفظون في هذا فقال: هذا حدثني أبي عن أبيه أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقال هذا حدثني أبي عن أخيه أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقال الآخر حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فقال مالك: أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثاً".
 - رواه الدارقطني.
 - هذه القصة مشهورة أخرجها أيضاً البيهقي بإسناد جيد. وقد أخرج ابن خزيمة والحاكم من طريق عروة عن أسماء بنت أبي بكر أمه أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالمد الذي يقتات به أهل المدينة. وللبخاري عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يعطي زكاة رمضان عند النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالمد الأول ولم يختلف أهل المدينة في الصاع وقدره من لدن الصحابة إلى يومنا هذا إنه كما قال أهل الحجاز خمسة أرطال وثلث بالعراقي. وقال العراقيون منهم أبو حنيفة أنه ثمانية أرطال وهو قول مردود وتدفعه هذه القصة المسندة إلى صيعان "ص 257" الصحابة التي قررها النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وقد رجع أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة بعد هذه الواقعة إلى قول مالك وترك قول أبي حنيفة.
قوله: "أنا حزرته" بالحاء المهملة المفتوحة بعدها زاي مفتوحة ثم راء ساكنة أي قدرته.
قوله: "آصع" جمع صاع قال في البحر: والصاع أربعة أمداد إجماعاً.
"فائدة" وقد اختلف في القدر الذي يعتبر ملكه لمن يلزمه الفطرة فقال الهادي والقاسم وأحد قولي المؤيد باللَّه: إنه يعتبر أن يملك قوت عشرة أيام فاضل عما استثنى للفقير وغير الفطرة لما أخرجه أبو داود في حديث ابن أبي صعير عن أبيه في رواية بزيادة غني أو فقير بعد حر أو عبد.
ويجاب عن هذا الدليل بأنه وإن أفاد عدم اعتبار الغنى الشرعي فلا يفيد اعتبار ملك قوت عشر.
وقال زيد بن علي وأبو حنيفة وأصحابه: إنه يعتبر أن يكون المخرج غنياً غنى شرعياً واستدل لهم في البحر بقوله صلى اللَّه عليه وآله وسلم: "إنما الصدقة ما كانت عن ظهر غِنىً" وبالقياس على زكاة المال ويجاب بأن الحديث لا يفيد المطلوب لأنه بلفظ: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً" كما أخرجه أبو داود ومعارض أيضاً بما أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "أفضل الصدقة جهد المقل" وما أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً: "أفضل الصدقة سر إلى فقير وجهد من مقل" وفسره في النهاية بقدر ما يحتمل حال قليل المال. وما أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال على شرط مسلم من حديث أبي هريرة قال: "قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم: سبق درهم مائة ألف درهم فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول اللَّه قال: رجل له

 

ج / 4 ص -186-       مال كثير أخذ من عرضه مائة ألف درهم فتصدق بها ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به فهذا تصدق بنصف ماله" الحديث.
وأما الاستدلال بالقياس فغير صحيح لأنه قياس مع الفارق إذ وجوب الفطرة متعلق بالأبدان والزكاة بالأموال. وقال مالك والشافعي وعطاء وأحمد بن حنبل وإسحاق والمؤيد باللَّه في أحد قوليه: إنه يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكاً لقوت يوم وليلة لما تقدم من أنها طهرة للصائم ولا فرق بين الغني والفقير في ذلك ويؤيد ذلك ما تقدم من تفسيره صلى اللَّه عليه وآله وسلم من لا يحل له السؤال بمن يملك ما يغديه ويعشيه وهذا هو الحق لأن النصوص أطلقت ولم تخص غنياً ولا فقيراً ولا مجال للاجتهاد في تعيين المقدار الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكاً له ولا سيما والعلة التي شرعت لها "ص 258" الفطرة موجودة في الغني والفقير وهي التطهرة من اللغو والرفث واعتبار كونه واجداً لقوت يوم وليلة أمر لا بد منه لأن المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم كما أخرجه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر قال: "فرض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم زكاة الفطر وقال: أغنوهم في هذا اليوم" وفي رواية للبيهقي: "أغنوهم عن طواف هذا اليوم" وأخرجه أيضاً ابن سعد في الطبقات من حديث عائشة وأبي سعيد فلو لم يعتبر في حق المخرج ذلك لكان ممن أمرنا بإغنائه في ذلك اليوم لا من المأمورين بإخراج الفطرة وإغناء غيره وبهذا يندفع ما اعترض به صاحب البحر عن أهل هذه المقالة من أنه يلزمهم إيجاب الفطرة على من لم يملك إلا دون قوت اليوم ولا قائل به.


 من الموسوعة الفقهية الكبري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق